(*) ماري دروبي في الذاكرة

mjoa Monday November 17, 2008 366

   لما تلطّفت رئيسة فرع الميناء، الأخت المهندسة مايا بنضو، فطلبت مني أن أكتُب كلمة تُتلى بمناسبة هذا اللقاء، لم يخطر على بالي، للوهلة الأولى، أن بإمكاني أن أقدّم مساهمة تفيد. لذا اعتذرتُ منها. ولكنني غيّرت رأيي بعد حديث جرى مؤخراً بيني وبين العزيز فؤاد دروبي وتناول بعض جوانب حياة ماري، عمته ونسيبتي، فصمّمتُ على الإقدام على الكتابة. ولم يكُن هذا الانقلاب بالأمر المستغرَب إذا ما وُضِعَ في سياق مساري. ذلك إن جلَّ كتاباتي لم ترَ النور إلا لأنها انطلقت من تفاعلي مع الشباب وبوحي مما قلناه معاً في لقاءَاتنا.

  .

 

دور ماري في تأسيس أسرة الطفولة
  بين الجوانب المتعددة لشخصية ماري الغنية، لم أعرف عن كثب وفي العمق إلا ذاك الذي تجلّى لي خلال ترافقنا، الذي امتدَّ على بضع سنين، في اطلاق أسرة الطفولة في الميناء، بعد أن وصلت اليها الحركة سنة 1944 إذا لم تخني الذاكرة.

  ففي عام 1945، أسندَ اليَّ رئيس مركز طرابلس آنذاك، جورج خضر (المطران جورج حالياً) الاشراف على العمل الثقافي في منطقة الميناء، فتركزَّ اهتمامي، بالدرجة الأولى، على اطلاق عمل تربية دينية حيّ بين الأطفال. وقد رويت بالتفصيل خبرتي هذه وجذورها في مداخلة كتبتها سنة 2005، بمناسبة احتفال فرع الميناء بالذكرى الستين لهذا الحدث، وأشرتُ حينذاك إلى دور ماري المميز فيه، كما يُمكِنكم أن تلاحظوا إذا عدتُم إلى النصّ المُستنسَخ لهذه المُداخلة وهو يحمل عنوان “عودة إلى الينابيع”. كانت ماري في الثامنة عشرة من عمرها عندما انضمت، بدعوة مني، إلى فريق من الفتيات بعضهن، وهما ملكة مشحم وجوزفين بندلي، سبقن ماري إلى الانتقال إلى رحاب الله، والبعض الآخر، كأليس بندلي وجورجيت توما وغلوريا بندلي، ما زال على قيد الحياة. خاضت ماري معي ومع هؤلاء الفتيات اللواتي كنَّ مثلها في مقتبل العمر، مغامرة اطلاق وجه للعمل التربوي الديني، كان جديداً آنذاك في كنيستنا الانطاكية واستلهمته لاحقاً بفعل تلقائي سائر المراكز الحركيّة.

  لم تكن ماري قد تمكنت من متابعة دراستها، الا أنها، بفضل الحسّ التربوي المميّز الذي كانت تتحلّى به، ما لبثت أن احتلّت في الفريق المذكور موقعاً قيادياً. واستطاعت أن تطبع العمل المشترك بطابعها الفريد وأن تساهم بشكل ملحوظ في نجاحه ونموّه واشعاعه. وبشكل أخصّ، تجلى حسّها التربويّ المرهَف في مرافقتها، التي امتدّت على عدّة أعوام، لأكبر فتيات أسرة الطفولة، وكنَّ آنذاك يافعات تتراوح اعمارهن بين 12 و 14 سنة صارت لهنَّ الصديقة الكبرى والملهمة، واستطاعت بفضل ايمانها الحيّ وشخصيتها المحبّة، المنفتحة، الشفّافة، أن تنقل اليهنَّ المسيح، بالتزامن والانسجام مع الحرص على تنمية شخصيتهن الانسانية بكل أبعادها وافساح مجالات الانتعاش أمامها، محققة بذلك الهدف الذي وضعه الفريق المؤسس نصبَ عينيه، الا وهو اقتران التربية المسيحية والتربية الانسانية وتداخلهما الوثيق.

  كان بودّي أن تبقى ماري طيلة حياتها مُلهِمة لأسرة الطفولة، مرافقة للأجيال الجديدة من المرشدين والمرشدات الذين تعاقبوا عليها والذين أشهَد لهم انهم حافظوا على التراث وزادوه ثراء، كنتُ اتمنى أن تبقى إلى جانبهم لتنقل اليهم خبرتها وتذكي فيهم على الدوام الشعلة الأولى. لذا أسفت لأن مسؤوليات ماري العديدة الأخرى أبعدتها عن هذا القطاع الحركي الذي كان برأيي لا يزال يحتاج إلى الهامها. ولما سألتها مرة لماذا لم تعُد تعنى به، أجابت ان السبب يعود لكونها تقدمت في السنّ. ولم تكن متقدمة في السنّ حينذاك، لذا اعتقد، استناداً إلى ما شكت منه أمامي ذات يوم، أن السبب الحقيقي يعود لكوننا لم نحرص كفاية على إشراكها في تطور المشروع الذي كان لها اليد الطولى في اطلاقه، فصارت تشعر أنها امست غريبة عنه. فإذا صحّ ظني أرجوكم أن تتخذوا منه عبرة للمستقبل.

 

جوانب أخرى من شخصية ماري وروحانيتها
  توسّعتُ في عرض جانب من حياة ماري ورسالتها، لأنني عرفته من قريب ولأنني أرجّح أنه يُخفى عليكم بسبب تقادمه في الزمن. ولكن هناك جوانب أخرى تعرفونها ولا شكّ، كما يعرفها كثيرون غيركم في الميناء وخارج الميناء، ومنها، على الأخص، عيشها المتواتر للحياة الليتورجية التي كانت مشغوفة بها، والتزامها العميق لقضية الفقراء، مسيحيين كانوا أو غير مسيحيين، والعمل التربوي الذي مارسته في خدمتهم طوال أعوام في مدرسة الخياطة التابعة للمستوصف الذي انشأته الحركة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية. وهنا اترك لسواي الأكثر اطلاعاً مني أمر التحدث عنها وايفائها حقَّها.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share