صفحتان إلكترونيّتان تابعتان إحداهما لحزب “مسيحيّ” والأخرى لتيّار يغلب عليه الطابع المسيحيّ تتصارعان على تحسين صورة نظام إسلاميّ تقبّحه الأخرى، فيما تعمل الثانية على تقبيح صورة نظام إسلاميّ آخر تحاول تحسينه الأخرى. حرب سنيّة-شيعيّة تدور رحاها على صفحات موقعين مسيحيّين وبأقلام مسيحيّة. هي حرب بديلة اعتاد اللبنانيّون بمسلميهم ومسيحيّيهم أن يخوضوها عن غيرهم منذ ما قبل نشوء الكيان الحالي. وهذا ليس بالأمر الجديد.
من الطبيعيّ أن يروّج حزب ما أو تيّار ما لعقيدته الحزبيّة أو الوطنيّة، وأن يسخّر وسائله الإعلاميّة المرئيّة والمكتوبة والمسموعة، وبخاصّة مواقعه الإلكترونيّة للدعاية الحزبيّة وأقوال قادته ومواقفهم. لكن من غير الطبيعيّ أن تتحوّل كلّ تلك الوسائل، بدعوى حماية المسيحيّين المشرقيّين والحفاظ عليهم، إلى تزوير الوقائع وقلب المفاهيم رأسًا على عقب، بحيث يبدو النظام الأحاديّ نظامًا تعدّديًّا، ونظام الحقّ الإلهيّ نظامًا ديمقراطيًّا، والنظام الذكوريّ نظامًا يحترم المرأة وحقوق الإنسان بعامّة.
ويزداد العجب حين نرى كتبة الموقعين المشار إليهما أعلاه المسيحيّون يتبارون في المقارنة بين ثقافة قبول غير المسلمين في ظلّ نظام “ولاية الفقيه”، وأصول التعامل معهم في “الفقه الوهّابيّ” والمفاضلة بين هذين الفقهين. بات المشتهى عندنا، نحن المسيحيّين المشرقيّين، أن نحيا تحت العباءة الإيرانيّة أو السعوديّة. فمَن يزعم من موقع طائفيّ دائم أنّه دافع يومًا عن أمن المجتمع المسيحيّ يسعى اليوم إلى مظلّة إسلاميّة متشدّدة تبقيه حاضرًا على مسرح الأحداث، ومَن يزعم أنّه علمانيّ الهوى ينزلق إلى مطالب طائفيّة ومحلّيّة ضيّقة مدافعًا عن نظريّة سياسيّة غيبيّة لا يمكن أن تنسجم مع أيّ علمانيّة ممكنة.
بات هاجس المسيحيّين اللبنانيّين أن يختاروا بين نموذجي حكم كلاهما يعيدهم إلى ما يشبه ما كان يسمّى نظام أهل الذمّة. وقد كان هذا النظام نافعًا لهم في غابر الأيّام حين لم يكن في ظلّ نظام دينيّ غير إسلاميّ مسموحًا لديانة مخالفة لدين الحاكم بالوجود. ففي كلا النظامين لن يتاح لهم الاعتراف بحقوقهم الكاملة كمواطنين، بل هم سيكونون منتقصي المواطنة. فما نفع التباري بين المسيحيّين على فتات الحقوق، وهل يستحقّ التنازع المسيحيّ المسيحيّ على الأصوات الانتخابيّة أن تذكّرنا خطابات قادة المسيحيّين بسوق عكاظ من حيث مدح هذا أو ذاك من الأنظمة التي لا تلبي أبدًا مطامحهم إلى المواطنة الكاملة؟
نقرأ على أحد المواقع الحزبيّة المسيحيّة موضوعًا عنوانه “إيران موطن الاضطهاد المسيحيّ” وليس ثمّة أيّ خبر عن السعوديّة وعدم احترامها حقّ غير المسلمين بممارسة شعائرهم الدينيّة على أراضيها. وعلى موقع “مسيحيّ” آخر نقرأ عن عدم تسامح المملكة العربيّة السعوديّة مع أبناء الديانات الأخرى، ولا نلحظ ما يمكن أن يسيء بكلمة واحدة إلى إيران وعدم احترامها حقّ الاعتقاد إلى حدّ الارتداد واختيار دين آخر غير الإسلام. ثمّة شيء من الصحّة في المعلومات الواردة على كلا الصفحتين، لكنّها معلومات غير كاملة. وهي تساهم في تعميم الجهل المقصود منه الكسب السريع، والذي لن يؤدّي إلاّ إلى الخسارة الفادحة التي ليس يمكن تعويضها.
لا تكمن النكسة فقط في تراجع أعداد المسيحيّين المشرقيّين وازدياد التنبّؤات بقرب زوالهم. لكنّ النكسة الحقيقيّة هي أن يصبح النموذج الإسلاميّ المتطرّف هو النموذج الذي يدافع عنه المسيحيّون اللبنانيّون ويتوقون إليه. والنكسة تزداد وطأة حين تخلّى هؤلاء عن السعي إلى المواطنة سبيلهم الوحيد إلى استمرار حضورهم الفاعل، ولا سيّما أنّ الذي يبقي التوازن بعد اختلال الأعداد والنسب بين الجماعات الطائفيّة ليس سوى احترام المساواة بين اللبنانيّين كافّة، أي المواطنة الكاملة لا المحاصصة الطائفيّة.
لا شكّ بأنّ جذور هذه النكسة ضاربة في عمق النموذج الطائفيّ اللبنانيّ الذي لا ينفك اللبنانيّون يمتدحونه على الرغم من أنّ هذا النموذج غذّى حروبًا داخليّة ونزاعات أهليّة، وما زال سببًا للتمييز بين اللبنانيّين والتفريق بينهم. ومن نكد الدهر، بعد سقوط الحلم بالمواطنة والعلمانيّة والدولة المدنيّة، أن نضطرّ إلى المفاضلة بين نظامين كلاهما يعيدنا إلى القرون الوسطى.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 30 تشرين الثاني 2008