يا ربّنا يسوع،
دعني أتأمل اليوم في سرّ فقرك،
هذا الفقر الذي اخترت أن تُطلّ به على عالمنا
المبهور بالغنى والمزدري بالبائسين.
ربّما أنستنا الهدايا الرَّمزيّة التي تلقّيتها من المجوس،
“تعتير” الزَريبة التي لم تجد سواها مكانًا تولد فيه،
وخشونة المعلف الذي تلقّى جسدك الطريّ.
لقد وُلدتَ محرومًا شريدًا،
على شاكلة مئات ألوف المشرَّدين
الذين تطردهم الحروب من ديارهم،
وترميهم على الدروب في عالمنا “المضياف”!
لا بل لازمك الفقر طيلة حياتك
وإلى حين موتك عرياناً على الصليب.
حتى أنّك عَرَّفت عن نفسك
بأنك ذاك الذي “ليس له موضع يسند إليه رأسه”
لأنك لم تكن تملك أجرة مسكن يُؤويك.
***
من فقرك هذا أودّ أن أنطلق
لأَتأمّل في أوضاع عالم اليوم،
على عتبة الألفيّة الثالثة من تجسّدك.
هذا العالم الذي جِئتَ تدعو أبناءَه
إلى وليمة المحبة والاخاء،
كي يتمجد الله في “مسرّة” الناس.
***
فأين نحن، يا ربّ، من وليمة الحبّ هذه؟
من إحدى كبرى الصحف العالميّة،
في عددها الصادر هذا الشهر بالذات،
علمت أن منظمة التغذية والزراعة العالمية
أحصت، في عام 1998،
30 مليون شخص ماتوا من الجوع في العالم،
وأكثر من 800 مليون عانوا من سوء تغذية خطير*.
***
فما سبب هذه المأساة، يا رب؟
هل صحيح، كما يُشاع،
أن أرضنا ضاقت بتكاثر سكّانها؟
كلاّ، فالأحصاءَات تجزم
بأن الانتاج العالميّ للمواد الغذائية الأساسية
يفوق نسبة 10% حاجة جميع سكان الكوكب*
***
السرّ ليس هنا
إنه في منطق الاستئثار والافتراس
الذي يسود الهيكليات الاقتصاديّة
التي تتحكّم بالعالم
وتفرز قلة من المتنعّمين المتخَمين
وكثرة من المحرومين.
***
ففي عالم اليوم، نصف مليار من البشر
يحتكرون العيش في بحبوحة،
في حين أن خمسة مليارات ونصف منهم
يعانون من العَوَز.
أما الهوّة التي تفصل بين أغناهم وأفقرهم
فتتّسع مع الأيام.
منذ أربعين عامًا،
كان دَخل الخُمس الأثرى من البشرية
يفوق ثلاثين ضعفًا
دَخلَ الخمس الأفقر منها.
أما اليوم فقد قفز إلى 82 ضعفًا
***
أمام هذه الأرقام المروّعة،
أعطنا يا ربّ شجاعة عدم التستّر
باللامبالاة والتجاهل والانسحاب.
أعطنا أن لا نتهرّب بقولنا:
” ما حيلتنا، ونحن من فصيلة المحرومين،
في مواجهة آلة عالمية ساحقة،
وهيمنة أخطبوط المال
الذي تلفّ أصابعه الكون؟
أعطنا أن ندرك أن واجبنا الأول
هو أن لا نستكين،
أن لا نسلّم بواقع الجور والقهر،
لأنه دوس كرامة ذلك الإنسان
الذي بذلت أنت حياتك من أجل رفعته.
***
أعطنا أن لا ننخدع بما يدّعيه
المستفيدون من هذه الهيكليات اللإنسانية،
عن حتميّتها المزعومة،
وأن ندرك أنها نابعة بالحقيقة
لا من طبيعة الأشياء،
بل من جشع البشر.
هبنا أن نردّ على من يتذرّع
بـ “حتمية” الظلم والاستغلال
في التاريخ البشري،
بأنك جئت، بالضبط،
لتحرّر التاريخ من “حتميّاته”،
وبأن ذلك يبدأ اليوم،
لأنه قيل عن الساعة “الآتية”
إنها أيضًا “الآن حاضرة”.
***
أعطنا أن نعلن بملء أفواهنا
رفضنا لنظام عالميّ هذه مواصفاته،
كما فعل (وأكثرهم بدون عنف)
هؤلاء الذين توافدوا من كل أقطار العالم
إلى مدينة Seattle
ليقولوا “لا” لعولمة تقوم
لا على تلاقي العائلة البشرية وتضامنها،
بل على ابتلاع الأقوياء للضعفاء؛
أو كما يفعل مسيحيّو البلاد الغنية
عندما يضغطون بشكل فعّال على دولهم
لتلغي أو تخفّف ديون البلاد الفقيرة،
لعلّها تتنفّس الصعداء،
وينتعش فيها الأمل
بالخروج من دوّامة التخلّف والبؤس.
***
إلى جانب ذلك، أعطنا يا رب،
ألا تشغلنا متاعبنا وهمومنا،
الشخصية منها والعائلية،
عن الاهتمام بمن هم أقلّ حظًّا منا،
وأكثر معاناة منا من الحرمان.
أعطنا مثلاً أن لا نسمح
بأن تخلو أية فرقة من فرقنا
من “صندوق محبة”
يجسّد، في اجتماعاتنا، هاجس المحرومين،
ويسعفهم ولو بـ “فلس الأرملة”،
على حساب بعض رغائبنا.
إذ كيف نطلّ عليك في إنجيلك
الذي تتحلّق فرقنا حوله
– أو هكذا يُفتَرَض-
إن كنا مُعرضين عن لقائك في المحتاج
الذي وَحَّدت ذاتك به منذ مولدك؟
***
حتى إذا ما ارشدتنا إلى كل ذلك،
وأخذت بيدنا في مسيرتنا إليه،
يذوب شيئًا فشيئًا جليد قلوبنا
فتتحول من “حجرية” إلى “لحميّة”
على شاكلة قلبك.
إذ ذاك، وكما أذِنَت لك مريم بالتجسد في أحشائها،
نسمح لك نحن بأن تُولد فعلاً فينا،
وبأن تشعّ منّا بهاءً على العالمين.
*Cf Ignaeio Ramonet: L’an 2000, LMD, décembre 1999,p.1.
Cf aussi p.31.