في أثناء العدوان على قطاع غزّة والمجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ بأهل ذلك القطاع، ارتفعت أصوات تتضامن مع الضحايا، وتدين الاعتداءات، وتستنكر السلوك الهمجيّ الذي اعتمده المعتدي في ضربه المعتدى عليه. لكن، في الوقت عينه، سمعنا، في العالم العربيّ وفي لبنان، بعض مَن يتفهّم مبرّرات الهجوم الإسرائيليّ على أهل غزّة، ويلوم الضحايا، لأنّهم أزعجوا الجار الجبّار، ممّا اضطرّه إلى تأديبهم، وردّهم إلى بيت الطاعة والاستسلام.
لسنا، هنا، في وارد استعراض المواقف السياسيّة والوطنيّة والقوميّة ممّا جرى في غزّة مؤخّرًا. لكن ثمّة أسئلة تداهمنا وتتحدّانا في عقر ضمائرنا: هل كانت مواقفنا، نحن المسيحيّين، من الظلم الواقع على رؤوس الغزّيّين قائمةً على أسس إيمانيّة أم سياسيّة بحتة؟ هل تضامن البعض مع أطفال غزّة انطلاقًا من موقفه السياسيّ وموقف زعيمه أم بناءً على تعاليم المسيح الصريحة؟ وهل كان، في المقابل، شعور البعض بالتشفّي وعدم إبداء التعاطف مع الفلسطينيّين مبنيًّا على موقف إنجيليّ أم على موقف حاقد يقوم على فكرة الانتقام ممّن تقاتلوا وإيّاهم في حرب أهليّة عبثيّة ليس يعرف أحدٌ، إلى اليوم، إن كانت وضعت أوزارها أم لا؟
هذا الموقف الثاني، الذي يبحث عن الانتقام ولا يهمّه أمر الظلم والمجازر، لن نتوقّف عنده في هذه العجالة، فهو موقف مضادّ لأبسط المبادئ الإنجيليّة. ومَن يجد في قتل الأطفال وتدمير البيوت انتقامًا له ممّا فعلته بعض العصابات منذ سنين في قريته أو في بلده من قتل ونهب وتهجير، فهل ما زال يسعنا اعتباره مسيحيًّا؟ كما أنّ الموقف الحياديّ السلبيّ هو مناقض كلّيًّا للكلام الإنجيليّ، وبين الأبيض والأسود ليس من بقعة رماديّة. وفي هذا السياق، يمكننا القول إنّ الموقف الذي يساوي بين القاتل والضحيّة، بين الذئب والحمل، هو، بالقياس عينه، ليس موقفًا مسيحيًّا.
أمّا مَن تضامن مع غزّة في محنتها انطلاقًا من موقف سياسيّ راهن أو تأثّرًا بموقف حزبيّ أو التحاقًا بموقف زعيم سياسيّ، فموقفه ملتبس. ذلك لأنّه موقف ظرفيّ قد يتغيّر إذا تغيّرت الأحوال والأحلاف. ودليلنا إلى ذلك هو موقف بعض مَن لم يتضامن مع أهل غزّة ممّن تجمعهم وإيّاهم الأرومة المذهبيّة الواحدة، فيما كان في الماضي غير البعيد أوّل مَن يسارع إلى إصدار بيانات الشجب والاستنكار ضدّ اعتداءات العدوّ الإسرائيليّ. من هنا، يكون التضامن، الذي قاعدته الحصريّة الموقف السياسيّ، تضامنًا غير حقيقيّ، بل نفعيّ استغلاليّ.
لا يكون التضامن مسيحيًّا إلاّ إذا خلا من الهوى. ولا يكون مسيحيًّا إلاّ إذا انطلق من التعاليم الإنجيليّة وحدها. ولا يكون مسيحيًّا إلاّ إذا كان لا يميّز بين ضحيّة وضحيّة على أساس الانتماءات الدينيّة أو الطائفيّة أو الوطنيّة أو القوميّة أو الجنسيّة أو العرقيّة. فالقياس، الذي يُبنى عليه التضامن مسيحيًّا، هو تماهيه مع الجواب عن السؤال الذي طرحه الربّ يسوع في مثل “السامريّ الرحيم”: “مَن صار قريبًا للذي وقع بين أيدي اللصوص؟”. “مَن قريبي؟” هو السؤال الذي ينبغي للمسيحيّ أن يطرحه على نفسه في كلّ مرّة يرى فيها عدوانًا جماعيًّا أو فرديًّا، كي يأخذ جانب المعتدى عليه لا جانب اللصوص والقتلة.
أهل غزّة وقعوا بين أيدي اللصوص وهواة القتل الجماعيّ، هذا هو واقع الحال. ونحن نتضامن معهم تنفيذًا لوصيّة الربّ يسوع لنا بأن نكون مع المستضعَفين والمعذَّبين في الأرض. ولو كان الوضع معكوسًا، لما تغيّر موقفنا، ولكنّا بجانب المظلومين لا الظالمين. فلا شيء يحدّد موقفنا من أيّ قضيّة أخلاقيّة غير مدى استجابته لمتطلّبات القواعد الإنجيليّة الصريحة. فالمسيح أتى ليعيد الاعتبار للإنسان إلى أيّ قوم انتمى، لا ليعلّي شأن شعب ما أو أهل دين ما أو أهل طائفة دون أخرى.
احترام الحياة الإنسانيّة هو المحكّ الحقيقيّ للإيمان والسلوك المسيحيّين. وكلّ مساس بحقّ الإنسان في الحياة الكريمة ينبغي أن يستنفر المسيحيّين ويستنهضهم للعمل من أجل الدفاع عمّن وقعت عليه الواقعة. اليوم غزّة، والبارحة العراق، وغدًا لا ندري أين سيحلّ الاستهتار بحيوات الناس. متى يعود البشر بشرًا؟l
مجلة النور، العدد الأول 2009، ص 2-3