ما الأرثوذكسيّة

الأب جورج مسّوح Sunday March 15, 2009 215

“الأرثوذكسيّة” صفة تتضمّن أمرين، الاستقامة في الإيمان والاستقامة في الحياة. فلا يمكن اعتبار المرء أرثوذكسيًّا إن لم يكن مستقيمًا في العقيدة وفي كلّ مندرجاتها السلوكيّة. والعقيدة ليست تعليمًا نظريًّا أو فلسفيًّا عقيمًا بلا ثمار حياتيّة، بل هي القاعدة التي يبني عليها المؤمنون حياتهم وتصرّفاتهم ومواقفهم اليوميّة. فالمؤمن بصليب الربّ يسوع وقيامته من بين الأموات، على سبيل المثال، لا يسعه أن يرفض حمل الصليب المدعوّ إليه، لأنّه بذا يكون قد خالف ما يزعم أنّه يؤمن به، أو يكون قد عطّل مفاعيل ما يؤمن به. وهكذا بالنسبة إلى أيّ عقيدة أخرى.

لا استقامة في الإيمان من دون استقامة في الحياة. ولا تكتمل الأرثوذكسيّة من دون هذا الانسجام المفترض أن يقوم بين ما هو تعليميّ وما هو تطبيقيّ. “قانون الإيمان هو قانون العبادة” و”قانون العبادة هو قانون الإيمان”، على هاتين العبارتين تقوم أسس الحياة الأرثوذكسيّة. العبادات جزء لا يتجزأ من صلب تكوين الشخصيّة الأرثوذكسيّة، ومحبّة القريب جزء آخر لا يقلّ أهمّيّة عن العبادات. فما ينطبق من قول على العلاقة بين العقيدة والعبادات، ينطبق أيضًا على العلاقة بين العقيدة والسلوك، وبين العبادات والسلــوك. وإن انفــرطت حجــرة مــن هذا العــقــد، انفـــرط العقــد كلّــه.

بيد أنّ التعبير الأرثوذكسيّ عن الإيمان وعن العبادات يندرج ضمن ما تعارفنا على تسميته بالثقافة، والثقافة متغيّرة غير ثابتة. لا يعني ذلك البتّة أنّ الإيمان يتغيّر، بل إنّ الإيمان يمكن أن يتّخذ أشكالاً متنوّعة للتعبير عن ذاته بحسب البيئات الحضاريّة والثقافيّة واللغويّة والعرقيّة. فلو افترضنا أنّ المسيحيّة نشأت في عالم غير العالم الهلّينيّ، لكان التعبير عن الإيمان، وليس الإيمان نفسه، مختلفًا عمّا وصل إلينا عبر التراث الحيّ للكنيسة. ولو كان دستور الإيمان كافيًا للتعبير، لما نشأت الحاجة إلى تفسيره وشرحه ضمن معارف كلّ جيل من الأجيال المتعاقبة منذ وضعه إلى يومنا الحاضر.

التعبير عن الإيمان الواحد، كونه يندرج في البيئة الحضاريّة والثقافيّة واللغويّة والاجتماعيّة لكلّ شعب من الشعوب، يمكن أن يتّخذ أشكالاً مختلفة في عصر واحد أو أن يتغيّر من عصر إلى آخر. فأن يأكل الشعب الروسيّ السمك خلال الصوم الكبير، ما عدا أيّام الأربعاء والجمعة والأسبوعين الأوّل والرابع والأسبوع العظيم، لا يعني أنّ صومهم غير كامل، فبيئتهم المناخيّة لا توفّر لهم ما يمكّنهم من الاستغناء عن السمك. وأن لا يعتمد الروس على الألحان البيزنطيّة في صلواتهم، لا ينتقص من إيمانهم شيء. وأن يحلق الكهنة المتزوّجون لحاهم، لا يعني أنّهم خرجوا عن أرثوذكسيّة الإيمان. وأن تصبح مشاركة المرأة الطامث في تناول القدسات أمرًا محمودًا لا دنسًا مرفوضًا، لهو من صميم إيماننا أنّ ما من طهارة يكتسبها الإنسان عفوًا، وتاليًا ما من نجاسة لا إراديّة.

من الضروريّ، إذًا، التمييز بين ما هو جوهريّ ثابت إن غاب غابت الأرثوذكسيّة، وما هو نابع من الثقافة البشريّة ومتغيّر بطبيعته. فقد لفتني سؤال طرحه عليّ أحد الإخوة المسلمين إذ لاحظ أنّنا نرسم السيّدة العذراء محجّبة وأنّ الراهبات يلبسن الحجاب، فالأصل إذًا بالنسبة إليه أنّ مثال المرأة المسيحيّة هو المرأة المحجّبة. فلماذا، توجّه إليّ بالسؤال، درج السُّفور عند نسائكم؟ فأضفت إلى ما ساقه من أمثلة ما قاله الرسول بولس عن تغطية المرأة لرأسها. ثمّ حاولت أن أشرح له أنّ غاية بولس الرسول، والتعليم المسيحيّ بعامّة، هو الحثّ على التحلّي بالفضيلة والتقوى والحشمة، ولم تكن غايته تشريع الحجاب إلى الأبد. والحجاب ليس غاية بحدّ ذاته، بل اكتساب العفّة وطهارة النفس والمحافظة عليهما. فمَن شاءت تتحجّب ومَن شاءت تبقى بلا حجاب، وكلتاهما مقبولتان.

من هنا، ينبغي الانتباه إلى التفريق بين الجوهريّ والثقافيّ، وعدم الخلط بين ما يميّز الأرثوذكسيّة مهما اختلفت الآونة والظروف والسياقات والبيئات، وبين ما هو قابل للتغيّر من دون أن يمسّ بجوهرها. والتشدّد الدينيّ الذي قد يصيبنا كما أصاب سوانا من أهل الأديان أو الطوائف الأخرى يبدأ من مسألة عدم التفريق بين الجوهريّ والحادث. الأرثوذكسيّة أسمى من أن تنحصر في عادات وتقاليد قد تحجب اللَّه عن المؤمنين في أحيان كثيرة.

 

مجلة النور، العدد الثاني 2009، ص 58-59

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share