إخوتي الأحباء،
السنون تمرّ، وربيعٌ تلو ربيع نلتقي في مثل هذه الأيام ، أيامٌ لها في حياتِنا الكنسية أبعادٌ قدسـيّة، نستمطرُ فيها من “ربّ القوات ” رحمةً و مغفرةً وليس لنا سواه معينٌ في الأحزان، و نحنُ إليه صائمون برحمةٍ من لدنهِ ، علّ ترابيّتنا تدركُ معنى الجوع إلى قربى الله ، فنخشعَ عند قدمي السيّد المزمعِ أنْ يتمجّدَ من أجل خلاصِنا.
في الذكرى السابعة و الستين لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية، أشكرُ الله أولاً على فيض نعمهِ وقد ارتضى خدمتَنا – رغم ضعفاتِنا و خطايانا – في حقل الربِّ العظيم قرباناً وشهادةً لاسمِه القدوس، دُعينا إليها لمّا أدركَ إخوةٌ لنا قبلَ سبعةِ عقودٍ معنى العيشِ مع يسوعَ في كنيسةٍ ، هي جسدُهُ الذي افتدانا و منحنا البنوّة، لنتألّهَ متقدسّين بجسدِهِ الطاهر و دمِه الكريم ، وهذا ما بشّرت بهِ الحركة أبناءَ أنطاكية داعية إلى نهضةٍ في الحياةِ الكنسيةِ الأرثوذكسيةِ في كافة تجليّاتها : من عيش الأسرارِ المقدسةِ و معاشرةِ الكتاب الكريم و التراث الآبائي، إلى التزام قضايا الكنيسةِ من حيثُ هي حاضنةٌ و راعية لكلِّ من اعتمدَ باسم الثالوثِ القدوس، إلى التزام قضايا الإنسان المقهور و المظلـوم في كلِّ زمـان و مكـان ، شـاهدةً لمحبّة الله و فدائِـه لكلّ بني البشـر …
ما احتكرتِ الحركـة يوماً حضورَ الكنيسةِ و ما اختزلته ، و هي تدركُ في العمق ، و بوعـي كاملٍ، موقعَها كجمـاعةٍ كنسية ، فهي من الكنيسـةِ وإليها، تأبى أن تنازعَ أحداً حقاً ليسَ لها فيه نصيـب، نصيبُـها – ككلِّ من اعتمدَ للإيمان – أن تشـهـدَ و تعملَ و تبشّرَ ، تعلّمَ و تتعلّمَ ، ترعى و تُرعى ، تسقطََ و تقومَ باتضاع العشّار ناهضةً تائبةً مستغفرة ضعفاتِ أبنائِها، متعلقةً بهُدبِ يسوع ، صارخة بانكسارٍ ” ارحمنا يا ربّ نحن الخطأة ” ، ما ابتدعتِ الحركة شيئاً ، بل أدركتْ أنّ المسيحية ليست ديانةً قط ، هي في الأساس حياةٌ في المسيح ، وهذه الحياة للجميع ، فاتبعت قولَ الربِّ : ” أنتم نور العالم ” (مت 5: 14 ) و مقولة بولس الرسول : “ويل لي إن كنت لا أبشر” ( 1 كو 9 : 16 ).
ما ذكرَ شيوخُها يوماً أنها مرتع ٌ للقدّيسين، بل مصحةٌ لخاطئين توّابين ، مصنعُ قداسةٍ إذا شئتم ، ” فالجماعة الحركية – و هذا ما عبّرَ عنه الأخُ الأمينُ العام مراراً – هي كالجماعةِ الكنسيةِ لا يُنظرُ إليها من خلال ضعفاتِ أبنائِها و مسؤوليها بل من خلال تجليّاتها كجماعةٍ بفعل الروح فيها” ، و هكذا وعت دورَها في عطاءٍ ملتزم، قدّمَ للأرثوذكسية في هذه الديار نُسغاً من طيبٍ روحي أنعشَ بنعمةٍ من الروح المحيي تراثاً كاد أن يخبــو من وطـأة السنين … و أعطى الكنيسة نخبة من خدامٍ للأســرار و عشراتٍ من رهبانٍ و راهباتٍ و العديد العديد من الإخوة الذين تنكّبوا همَّ كنيستِهم قضية حياةٍ أولاً، يحلمون بكنيسةٍ ناهضةٍ بكلِّ مؤمنيها ، برعاتِها و خدّامِها ، بشيبها و شبابها ، كنيسةٍ تحيا تقليدَها و تراثَها ، تحيا مجمعيّتها ، تقدّسُ مجتمعَها ، تقتفي سيرة آبائِها ، يقلقها أنْ ترى أبناءَ الإيمان في غير دنياها ، لقد سئمَ الشبابُ الكنيسة المتحفَ، كنيسةً تخاطبُهم بلغةٍ لا يدركونَها ، كنيسةً لا تلامسُ همومَهم و حياتَهم من الداخل ، تغيّبُ حضورَهم الفاعل في أطرٍ و قوالبَ تناسبُ الكنيسة المؤسسة… تؤطّرُ مواهبَ الروح في نصوص (2 كو3: 6 ) ، كنيسة لا تثقُ بأبنائِها ، الكنيسةُ التي تعاني من الانفصام عن هذا العصر و تفقدُ لغة الخطاب، الكنيسةُ غيرَ الراعيةِ و المحِبّة ستفقدُ حتماً أبناءَها، و نتباهى عندها بكنيسةِ الطائفةِ ذاتِ الحضور الاجتماعي الباهر… هذه الكنيسة / الطائفة ما سعت إليها الحركة يوماً ، الكنيسةُ الناهضة هي الحلمُ، هي المرتجى و الأمل..هي الملكوتُ الحاضر و المُعاش.
فهل ما زالت الجذوة متّقدة ؟ هل نحن ناهضون ؟ وهل حققت النهضةُ مداها الأنطاكي؟
النهضة يا إخوة ، هي حركة مستمرّة ، هي صيرورة لا تنتهي ، هي جهاداتُ انعتاقٍ عن عالمٍ يغالبُ حضورَ السيّد له المجد ، انعتاقٍ عن مساربَ دهريةٍ ، عن عولمةٍ طاغيةٍ تسحقُ الروحَ وتستنزفُ الجسد ، النهضة هي حضورُ السيّدِ في حياتِنا كلّ يومٍ و كلّ لحظةٍ ، وهذا نعلنُه كلَّ حين شهادةَ إيمان و دعوة ، لا يعتقدنّ أحدٌ أن الحضورَ الأرثوذكسي في هذه الديار قد أضحى في مأمنٍ من عادياتِ الزمن ، فهذا من السذاجةِ بمكان.
حياتنا الكنسية في هذه الأيام أضحتْ صخباً إعلامياً – كما أهل الدنيا – مؤسسةٌ لاهوتية ، قوامُها نصوصٌ ، أضحت هي المبتغى ، نختلفُ على تفسيرها ، جيّدٌ أنْ نجاري تقنياتٍ ووسائلَ تخدمُ البشارة، و لكنّ الأحلى و خصوصاً في إطار المحبّةِ و الشركةِ التي نتغنّى بها أن نلتقيَ ، نتحاورَ ، نصلي ، نعيشُ شركة يسوع ، ملتفين حول الكأس الواحدةِ ، بإمامةِ الأسقفِ الراعي والمعلّم و القدوةِ في صورةِ المسيح، يقيلُ بعضُنا عثراتِ بعضٍ، يغفرُ بعضُنا زلاتِ بعض ، يحترمُ كلٌّ مواهبَ الآخر، الكنيسةُ يا أحبّة كما نعرفُها في الحركة ليست للنُخبِ ، و ليستْ للمتفوّقين ، ليستْ للأصحّاء بل للمرضى ، هي للجهلاء كما للحكماء ، فما كمُلَ أحدٌ سوى ابنِ الإنسان ، والروحُ يحفظُ استقامة الإيمان في جماعةِ المحبّةِ تلك، وهي تطيعُ مدبّرَها والمؤتمنَ على قطيع المسيح، من يبذلُ نفسَهُ من أجلِها ، راعيها في الإنجيل. لكن ما زال العديدُ من أبناءِ الإيمان ساهين عن نعمى الخلاص ، و ما أدركتِ الكنيسة بعدُ، رعاةً و مؤمنين هؤلاءِ المدعوين إلى الملكوت ، و ما زالتْ هنا و ثمّة رعايةٌ متعثرة ، تقاربُ الرعاية بانتقائيةٍ غريبةٍ ، مختلقة مبرراتٍ بلبوسٍ كنسي ، رعاية بالإقصاء ، مفاهيمَ محدثةٍ ، تداني مفاهيمَ أهل العالم .
ومن هنا أقولُ لكم: الطريقُ يا أحبّة إلى ما تحلمون طويلة و شاقة ، ومن أرادَ أنْ يتبعَ يسوع ليس له أن يسريَ الهوينا ، بل عليه أن يتمثل بالمعلم ويحمل صليبَه… فاجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق . فإني أقول لكم إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.
أحبائي،
لن أطيلَ عليكم ، أدعوكم أن تجاهدوا وتقبلوا إلى معرفة الحق و الحقُ يحررُكم (يو 8 : 20 ) أدعوكم إلى مزيدٍ من الصلاةِ ، إلى مزيدٍ من التوبةِ ، إلى مزيدٍ من عيش المحبة فعلاً لا قولاً، مهتدين بقول الكتاب :” فرحين في الرجاء.صابرين في الضيق.مواظبين على الصلاة ” ( رو 12:12 ) .
و كل عام وأنتم بخير ..
أخوكم نهاد خوري
14/3/2009