إذا شئنا أن نبحث عن شخصيّة دينيّة تتقارب بشأنها آراء المسيحيّة والإسلام لما وجدنا أفضل من السيّدة مريم. فهي العذراء التي لم يمسسها بشر، والبتول، والطاهرة، والمصطفاة، و”أمّ المسيح”، وسواها من الصفات والألقاب التي يتّفق عليها المسيحيّون والمسلمون. إلاّ أنّها أيضًا “والدة الإله”، “والكلّيّة القداسة”، والأرفع سموًّا من الملائكة لدى المسيحيّين الذين يتّبعون المجامع المسكونيّة السبعة. النظرة إلى مريم إذًا تتفاوت من بعض جوانبها لدى الطرفين، ولا يمكن أيًّا منهما أن يغفل عن هذه الحقيقة التي يفرضها الإقرار بالاختلاف.
إنّه لسارّ للقلب والروح أن يختار اللبنانيّون، مسيحيّين ومسلمين، عيد بشارة السيّدة العذراء ليعيّدوا معًا ويفرحوا. ومن الطبيعيّ أن ينظّموا لقاءات واحتفالات مشتركة، فيرتّلوا ويرنّموا وينشدوا، ويقرأوا فصولاً وآيات من كتبهم المقدّسة، ويقدّموا شهادات وتأمّلات عن معاني الاحتفاء بمريم. غير أن المرجو في كلّ ذلك أن يحافظ المشاركون على أصالتهم وتجذّرهم في إيمانهم، كي لا يسقطوا في تلفيقات لا تألفها الديانات الكبرى بل تتميّز بها الشيع الصغيرة المرمية على هامش التاريخ الدينيّ.
طالعتنا صحف الأسبوع الفائت بتغطيات لأحد اللقاءات المسيحيّة الإسلاميّة بمناسبة عيد البشارة. وقد جمع هذا اللقاء رسميّين ورجال دين ومهتمّين بالشأن الدينيّ وبالحوار بين الأديان. ولفت نظرنا أنّ الحاضرين تلوا نصّ “دعاء مشترك” يتضمّن انحرافات لاهوتيّة غريبة عن التراث المسيحيّ وما تُجمع عليه الكنائس. فاللبنانيّون إذا شاؤوا دعم التقارب الوطنيّ والحثّ عليه، لا يعني البتّة أن يخترعوا نصوصًا تتعارض مع إيمانهم الصميم. فالاختلاف الدينيّ أمر طبيعيّ، وإذا انتفت الفوارق بين الأديان تكون الأديان واحدة، وهي ليست واحدة. وفي كلّ حال ينبغي الفصل بين الشأن الوطنيّ الجامع والشأن الدينيّ الحميم، فالتسويات على المستوى الوطنيّ مطلوبة ومحمودة، أمّا في الشأن الدينيّ فلا تسويات.
يقول الدعاء المشترك إنّ الله أنزل “التوراة والإنجيل والقرآن”، بينما المسيحيّة لا تؤمن بتنـزيل الإنجيل، وكم بالأحرى بغيره من الكتب، بل تعتبر الأناجيل شهادات حيّة دوّنها الرسل بأسلوبهم البشريّ وبإلهام من الروح القدس. ثمّ يضع الدعاء المسيح “روح الله” في جملة الأنبياء مع موسى “كليم الله”، ومع محمّد “خاتم رسل الله”. وهذا لا ينسجم مع اللاهوت المسيحيّ الذي يعتبر المسيح إلهًا كاملاً لكونه “كلمة الله” الأزليّ الأبديّ. ولا يرد في التراث المسيحيّ عنه أنّه روح الله، كما لا يرد في التراث المسيحيّ اعتراف بأنّه سوف يأتي بعد المسيح مَن يمكن أن يدعى “خاتم الرسل أو النبيّين”.
يتبنّى هذا الدعاء “غير” المشترك الخطاب الإسلاميّ متحاشيًا العبارات المسيحيّة التي تعبّر بعمق عن الإيمان. فالكنيسة لها خطابها العقائديّ الذي لا يجوز التفريط به. فهذا الدعاء لا يذكر اسم “والدة الإله” الذي دافعت عنه الكنيسة في وجه الهرطقة التي أنكرت ألوهة المسيح. كما يغيب ذكر الصليب، فخر المسيحيّين وعلامة نصرهم على الموت. وتغيب قيامة المسيح من بين الأموات التي من دونها لا مسيحيّة ولا مسيحيّين. في المقابل يفترض بمَن يتلو الدعاء من المسيحيّين أن يؤمن بما يمكن أن يخالف الإيمان المسيحيّ، أي بالتنـزيل القرآنيّ وبنبوّة محمّد و”بسيّدَي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين”.
نحن لسنا ندعو في هذا المقام إلى تنازلات متبادلة ولا إلى مفاوضات تؤدّي إلى نصّ مشترك لا ينسجم مع حقيقة ما يؤمن به كلا الطرفين. ليس عيبًا أن نختلف في الشأن الدينيّ، بل العيب يكمن في الانزلاق إلى خطاب تلفيقيّ يبعدنا عن التنوّع الحقيقيّ الذي يدعونا إلى قبول اختلافنا مع الآخر، وأنّ هذا الاختلاف لا يمنعنا من احترام هذا الآخر في إيمانه وعباداته وتقاليده. ليس المطلوب نصًّا إنشائيًّا يجعلنا بلا طعم ولا نكهة، بل المطلوب أفعال نستوحيها من قيم “ستّنا مريم” ومن القيم التي كلّ منّا يجدها في كتبه وصلواته وتراثه الحيّ.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 5 نيسان 2009