كثيرًا ما ننسى في غمرة الأحداث المتتالية التي تعصف في منطقتنا العربيّة المعنيّين المباشرين بها. فنذهب في ردّة فعلنا إلى استدعاء قضايا كبرى عوض الالتفات إلى آلام الأفراد الذين يعانون من هول هذه الأحداث. المشكلة تكمن في غياب مفهوم الفرد عن مجتمعاتنا وعن ثقافاتنا وأنماط تفكيرنا. فالمرء ليس فردًا منعزلاً ذا مواهب يُعرف بها، بل هو رقم في كتلة دينيّة، أو مذهبيّة، أو عرقيّة. وهو، وإن أعلن تحرّره من الانتماء إلى أيّ تصنيف قبليّ، ثمّة مَن يدرجه، على الرغم منه، في إحدى هذه الانتماءات، ويعامله على هذا الأساس الحصريّ الذي لا مهرب منه كالقضاء والقدر.
ننسى أنّ أهل العراق هم عراقيّون قطن أجدادهم تلك البلاد منذ آلاف السنين، منذ ما قبل نشوء الديانات السماويّة. هم أهل البلاد قبل أن يصبحوا سنّة وشيعة، كلدانيّين وأشوريّين، صابئة وإيزيديّين، وقبل أن يكونوا عربًا وتركمانًا وأكرادًا. ننسى هذه الشخصيّة العراقيّة الفريدة، المركّبة، المتنوّعة، التي امتزجت فيها روافد عدّة من ثقافات توالت على تشكيل التاريخ العراقيّ في أبعاده الحضاريّة والإنسانيّة العامّة. ننسى تلك الفرادة العراقيّة المتمثّلة في الفرد العراقيّ، ونلجأ إلى التنظير عن قضايا كبرى قد لا تعني معظم الذين يكابدون المعاناة اليوميّة ويضطّرون إلى هجرة ديارهم كفرًا بمرتكبي العنف المجّانّيّ الذي لا ينفكّ يفتك بهم ليلاً نهارًا.
مَن لا يزال يعتقد أنّ العراقيّ المسيحيّ يهمّه الحديث عن العيش المشترك أو عن تاريخ التسامح الدينيّ الإسلاميّ مع المسيحيّين، وهو يرى كنائسه تُنسف؟ وهل يعني للناسف شيئًا أن تعظه عن أسس العيش المشترك وقبول الآخر المختلف دينيًّا في تراثه الإسلاميّ، بدءًا من القرآن الكريم والحديث الشريف إلى آخر الفتاوى الفقهيّة المتسامحة، حتّى يرتدّ عن ارتكابه العنف ضدّ أهل الكتاب وسواهم من العراقيّين؟ ليست تكمن ضمانة هذا المسيحيّ العراقيّ، في ظروف قاهرة كهذه، في حديث مستعاد ومكرّر عن التذكير بالعيش المشترك ماضيًا، وهو حاضرًا ومستقبلاً يُقتل مجّانًا، بل هاجسه كيف ينقذ نفسه وأولاده من الإبادة التي تنتظرهم في غد قد لا يكون لناظره بعيدًا.
حدّثني صاحبي العراقيّ الصابئيّ، المقيم مؤقّتًا في لبنان، عن هجره بلاده نهائيًّا بسبب تحوّلها جحيمًا لا تطاق. وهو ينتظر مع عائلته تأشيرة للهجرة إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة بعد أن ترك وراءه بيته ومقرّ عمله، هو الدكتور في الصيدلة، هربًا من العنف العشوائيّ، ومن العودة إلى نظام الجزية، وقد فرضتها عليه بعض الفرق الناشطة على الأرض، ومن نظام أهل الذمّة المجحف بحقّ غير المسلمين. نعم، حدّثني صاحبي بأسف شديد عن استحالة العيش في العراق في ظلّ استفحال المذهبيّات الأصوليّة التي تريد العودة بأهل العراق إلى مجاهل القرون الوسطى، وفي ظلّ تنامي الجماعات العنفيّة التي تستحضر النـزاعات التي كانت السبب الرئيسيّ في انشقاقات المسلمين منذ العصر الأوّل للإسلام.
ليس في الحديث عن التاريخ المجيد، ولا في الحديث عن التسامح الدينيّ في الإسلام، ما ينفع المسلمين وغير المسلمين في العراق. ما ينفعهم هو إعادة الاعتبار إلى الفرد العراقيّ مواطنًا قائمًا بذاته، ومواجهة قوى الاحتلال التي لا يهمّها أمر المسيحيّ ولا المسلم ولا الصابئيّ، بل الاستيلاء على ثروات البلاد والحفاظ على إسرائيل كيانًا غاصبًا لحقوق الفلسطينيّين.
قبل أن يكون العراقيّ منتميًا إلى كتلة دينيّة أو عرقيّة هو كائن لديه ذاكرة تعيده دائمًا إلى أماكن ولادته وترعرعه ولهوه وعباداته. فمَن يستطيع أن يمحو من ذاكرة الصابئيّ مياه دجلة والفرات حين تفرض عليه شعائره الاغتسال؟ ومَن يستطيع أن يلغي أهمّيّة معبد لالش من ذاكرة الإيزيديّ حين ينوي العبادة؟ ومَن يستطيع أن يشطب من ذاكرة المسيحيّ انتشار المسيحيّة في كلّ بقعة من بقاع العراق؟ هكذا أيضًا بالنسبة إلى المسلمين، سنّة وشيعة، الذين يتمّ تهجيرهم إلى مناطق نقيّة مذهبيًّا. ليست القضيّة، إذًا، سوى قضيّة الإنسان العراقيّ قبل أيّ شيء آخر.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 26 تموز 2009