كلّ نفس مدعوّة أن تكون مريم

الأب جورج مسّوح Saturday August 15, 2009 83

لا يذكر أيّ من الأناجيل الأربعة حادثة رقاد السيّدة مريم أو أيّ حدث من أحداث حياتها، من الولادة إلى الوفاة، سوى واقعة بشارتها من الملاك جبرائيل بولادتها المخلّص المنتظر مجيئه. فمهمّة الأناجيل ليست الحديث عن مريم أو عن سواها من الشخصيّات التي عاصرت السيّد المسيح ورافقته على دروب حياته، بل تقتصر هذه المهمّة على نشر تعاليم يسوع وأبرز الأحداث التي جرت معه. أمّا كلّ ما يرد ذكره عن أحداث ساهمت فيها شخصيّات أخرى، كالبشارة واعتماد يسوع من يوحنّا في الأردنّ، فالأناجيل تبرز المسيح وحده محورًا للحدث، فيما تؤدّي تلك الشخصيّات دورًا ثانويًّا.

تستفيض النصوص العباديّة في استجلاء معاني عيد رقاد السيّدة مريم، فالمسيح الذي اتّخذ منها جسدًا وصار لها ابنًا، هو صانها من فساد القبر ونقلها إلى ملكوته السماويّ. وهذا الاعتقاد يجد له جذورًا في التراث الكنسيّ اللاهوتيّ، فابن الله صار ابن مريم، وكما قام المسيح جسديًّا من بين الأموات، ولم يدع الموت يمسكه، ولم يتركه يرى الفساد (أعمال الرسل 2، 24 و27)، كذلك أقام المسيح جسد أمّه بعد وفاتها، ذلك الهيكل الذي قدّسه الروح القدس، وسكن فيه ابن الله تسعة أشهر، وقد اتّخذ منه جسده، ولم يتركه يرى الفساد والانحلال كسائر أجساد البشر.

في الحقيقة تكتسب مريم عظمتها من أمرين متكاملين لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر: قبولها الحمل بيسوع وإنجابه، وخضوعها لكلمة الله ومشيئته. فالمقطع الإنجيليّ الذي تتلوه الكنيسة الأرثوذكسيّة في أعياد مريم كافّة يخبرنا أنّ امرأةً بعد أن رأت إحدى معجزات السيّد المسيح صرخت مادحةً إيّاه: “طوبى للبطن الذي حملك والثديَيْن اللذين رضعتهما”. فأتت ردّة فعل يسوع قاطعةً: “بل طوبى للذين يسمعون كلمةَ الله ويحفظونها” (لوقا 10، 38-42). فالمرأة أرادت، كما هي الحال عند العامّة، امتداح ما هو طبيعيّ وناتج عن الطبيعة، أي التوالد والتناسل والتكاثر، وهذه كلّها ليست بفضائل أو قيم، إنّما هي محكومة بعوامل علميّة بيولوجيّة أو سواها. فصوّب يسوع المسألة نحو وجهة أخرى وأكسبها ما يعلي من شأن الإنسان وخياراته الحرّة، إذ قال إنّ الطوبى لا ينالها الإنسان بسبب عامل طبيعيّ، بل ينالها مَن يطلبها مخضعًا نفسه وإرادته لمشيئة الله، وعاملاً بحسب كلمته.

هكذا مريم التي ولدت أعظم الكائنات، اكتسبت عظمتها من خضوعها لكلمة الله وحفظها لها. فإنْ عدنا إلى فاتحة إنجيل لوقا وقرأنا الحوارين اللذين حصلا بين ملاك البشارة ومريم، وبين مريم وأليصابات، لوجدنا أنّ مريم لم تكن لتصير والدة يسوع بالجسد لو لم ترضَ أن تُخضع إرادتها لمشيئة الله، وهذا جليّ في قولها لملاك البشارة: “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38). عظمة مريم تكمن في أنّها تواضعت وقبلت أمر الله، وكان باستطاعتها أن ترفضه، فالله يحترم حرّيّة الإنسان ولا يفرض عليه أيّ أمر لا يختاره بملء إرادته، لذلك رفعها الله إلى أن تصير والدة ابنه الوحيد بالجسد. وإنْ شئنا التسلسل الحقيقيّ للأحداث، فيمكننا القول إنّ قبول مريم الخضوع لمشيئة الله يسبق زمنيًّا صيرورتها والدة ابنه الوحيد، لا العكس.

الطوبى لمريم طوبى لها قولٌ فصلٌ فيها، لا طوبى مكتسبة فطريًّا. مريم تسمع كلمة الله، تستجيب لها، لا ترفضها، لا تتردّد في اتّخاذ القرار، قرارها أن تقول “نعم” بلا تحفّظ عندما يدعوها ربّها. ومريم هي مثال الإنسان المستسلم لمشيئة الله، وهي الصورة النموذجيّة التي ينبغي لكلّ مؤمن بالله أن يكون عليها. فالمؤمن مدعو كمريم إلى أن “يسمع كلمة الله”، أي أن ينفّذها في يوميّاته؛ وأن “يحفظها”، أي أن ينقلها إلى الجيل الذي يليه. وهو مدعو كمريم إلى أن يقول في كلّ حين: “أنا أمَةٌ (أو أنا عبدٌ) لله”، مقتديًا بها في تواضعها الجمّ. كلّ نفس مدعوّة إلى أن تكون مريم أخرى.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 15 آب 2009

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share