يعسر علينا أن نحيط في مقالة صغيرة بفكر علاّمة كبير استندت إليه آلاف الدراسات والأبحاث، وكُتبت عنه رسائل عديدة لنيل شهادات الماستر والدكتوراه في شتّى الميادين التي برع فيها وتجلّى، وعُقدت ندوات ومؤتمرات عديدة لدراسة فكره في جوانبه كلّها. هذا هو حالنا مع الأب يواكيم مبارك (1924-1995) العائد رفاتًا ليرقد بسكون في تراب وطنه الذي أحبّ واشتهى رؤيته أكثر بهاءً. غير أنّنا سنكتفي بالإضاءة على تقدماته في سبيل ترسيخ الحوار المسيحيّ الإسلاميّ على أسس “علميّة وعمليّة وروحيّة” على حسب قوله.
ترك الأب يواكيم العديد من المؤلّفات المرجعيّة في الدراسات الإسلاميّة والمسيحيّة، منها “إبراهيم في القرآن”، و”الإسلام”، و”الفكر المسيحيّ والإسلام منذ نشأته حتّى سقوط القسطنطينيّة”. كما أصدر مبارك، عن منشورات الندوة اللبنانيّة، “خماسيّة في المسيحيّة والإسلام”، وهي مجموعة من أبحاثه ومقالاته توزّعت في خمسة أجزاء تحت عناوين “أعمال لويس ماسينيون” الذي كان معلّمه، “القرآن والنقد الغربيّ”، “الإسلام والحوار المسيحيّ الإسلاميّ”، “المسيحيّة والعالم العربيّ”، “فلسطين والعُربة (بضمّ العين)”.
يتحدّى الأب مبارك، في مقالة عنوانها “الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلاميّ المسيحيّ” صدرت في كتيّب عن منشورات النور، الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ في تعامله مع الديانات غير المسيحيّة. فيطالب بتغيير الذهنيّة اللاهوتيّة في المسيحيّة، إذ “يقتضي تحويلها من الأحكام القاطعة، إيجابيّة كانت أم سلبيّة، إلى تساؤل متواضع يليق بالذهنيّة العلميّة والروح الإنجيليّة في آن”. وهذا يعني لديه “رفضًا لإسماعيليّة الإسلام من خلال إبراهيميّته”، ورفضًا لإسحاقيّة المسيحيّة من حيث النظر إليها “كمجرّد وراثة للأفضليّة اليهوديّة على حرمان الشعوب”. لذلك يرفض مبارك كلّ محاولة احتوائيّة تحاول “ضمّ الإسلام والديانات الأخرى إلى التاريخ اليهوديّ المسيحيّ والإطار الكنسيّ”. وينتهي إلى دعوة المسيحيّة إلى الانعتاق ممّا سمّاه “تهوّد المسيحيّة والادّعاء بالأفضليّة على أساس الوعد والانفراد بالميراث، ميراثًا لا يدخله إلاّ مَن طأطأ الراس وعفّر الجبين أمام العنفوان الكنسيّ الموروث عن العنفوان اليهوديّ والمتجدّد في البطر الصهيونيّ”.
ثمّ يدعو مبارك إلى انتفاضة عربيّة في وجه هذه الغطرسة اللاهوتيّة والخطر الصهيونيّ الداهم عبر تشارك المسلمين والمسيحيّين في صدّ معاناة شعوب أوطانهم. فبعد أن يذكّر بـ”معاناتنا المشتركة بين مسيحيّين ومسلمين في جنوب لبنان”، يحثّنا على المشاركة المصيريّة في هذه المعاناة من دون إغفال “المعاناة الكبرى التي تدعو العرب أجمعين إلى اتّباع الصراط المقدسيّ واقتحام التاريخ في خطى الثورة الفلسطينيّة”. أمّا السبيل إلى ذلك فيكمن في “علميّة تغاير العلمنة الغربيّة بتأصّلها في التراث الشرقيّ، واتّزانها ونزاهتها، وتتحدّى ثيوقراطيّة الأديان الثلاثة على السواء”. وفي ذلك تهتدي المسيحيّة إلى دعوتها الإنجيليّة في ديار الإسلام.
مهمّتان كبريان رآهما الأب مبارك تجعلان الشهادة المسيحيّة الناطقة بلسان عربيّ ذات جدوى. المهمّة الأولى لاهوتيّة الطابع، وسبيلها التواضع، وغايتها عدم الانزلاق إلى فخ الذهنيّة الدينيّة اليهوديّة التي تروّج لانحياز الله إلى شعب دون آخر أو إلى قوم دون آخر. وهو لمس لدى المسيحيّين انغلاقًا فكريًّا ولاهوتيًّا يجعل الله حكرًا لهم، ويسدّ الأبواب أمام أبناء الديانات الأخرى. من هنا دعوته إلى الانتفاضة على هذه الذهنيّة والتغلّب عليها عبر المعرفة والروح اإنجيليّة الحقيقيّة. أمّا المهمّة الثانية فمحورها المشاركة المسيحيّة الإسلاميّة في مقاومة الاعتداءات التي يتعرّض لها الشعبان اللبنانيّ والفلسطينيّ، وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل.
هاتان المهمّتان اللتان رسمهما الأب مبارك منذ حوالى الأربعين عامًا لم ينجح المسيحيّون في تحقيقهما. فعلى الصعيد اللاهوتيّ لم يقم إلى يومنا الحاضر جهد جماعيّ جدّيّ قادته الكنائس المشرقيّة من أجل دراسة موقع الإسلام في التدبير الإلهيّ. وهذا لا يعني نفي الجهود الفرديّة الأصيلة لدى بعض اللاهوتيّين الذين تعمّقوا في مسائل التعدّديّة الدينيّة. أمّا لبنان وفلسطين، فبدل أن تحلّ مشاكلهما ازداد التشرذم والقهر، وبخاصّة بعد أن أضيف إليهما العراق ودول عربيّة أخرى.
مباركة عودتك أيّها المبارك. نفتقد في هذا الزمن القهّار إلى أمثالك. لا بدّ أن يأتي يوم وتصبح لكلّ نبيّ كرامة في وطنه.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 30 آب 2009