نسجد لآلامك

mjoa Tuesday September 1, 2009 692
crucifixionالمسيح على الصليب بين مريم ويوحنّا، الشمس، والجمجمة تحت قدميّ المصلوب. فوق رأس يسوع كتب بالحروف اليونانية “الصلب” وإلى اليمين “هذه هي أمك” وإلى الشمال “هذا هو ابنك”. لا زخرفة في صورة الألم المتجسّد، المشهد بكامله يحمل معنى روحياً عميقاً، إنّه السرّ بعينه، مجرّد من الجمال الفنيّ، وإن كان الجمال هنا كامناً في هذه البساطة الفائقة. وعلينا ألاّ ننسى أنّ الجمال هنا في هذه الحجيرات المتراصّة التي تؤلّف اللوحة وكأنّ الحجر يحكي ويبعث الحياة!

وقفة مريم ويوحنا، وإن كان فيها شيء من التصلب، إنما هي مفعمة بالرأفة، ومطبوعة بصفاء لا متناهٍ، وينبعث منها سكون هادئ. لا اضطراب في حزن مريم ولا هيجان، لا قلق في وضع يد


يوحنا على خدّه، بل ألم صميميّ. مريم تشير بيدها اليمنى إلى المصلوب، توجّه أنظارنا إليه، وأما اليد اليسرى فقريبة من حنجرتها التي خنقها الحزن، وكأنّها تريد فكّ عقدة تشنّجها من فرط الألم؛ إنّها متجمدة في آلامها، مختنقة بعبراتها.
المخلص على الصليب ليس بإنسان منهك القوى ومضني من الألم، إنّه جسد هادئ معلّق بطريقة أثيرية، بخفّة فائقة يبرز على الخشبة: جسده مقوّس، منحنٍ نحو أمّه. إنّه في كلّ حال سيّد موته وسيّد حياته لا يفقد شيئاً من عظمته وهيبته وجلاله. الدم الممزوج بالماء المتدفّق من جنبه المطعون علامة الحياة المستمرّة. علامة ولادة الكنيسة.
تحت قدميّ يسوع جمجمة، والتقليد يرجّح أنها جمجمة آدم، رمز الإنسان الأول وبه تُرش المسكونة كلّها بدم المسيح. آدم الأول والثاني يلتقيان، يؤلفان قطبين متركّزين، موجودين في كلّ إنسان. وعلى الأخير أن يختار، بملء إرادته، محور وجوده.
الشمس أظلمت ولذلك هي موجودة عن يمين المصلوب، “لمّا شاهدتك الشمس على الصليب معلّقاً التحفت بالقتام والأرض تموجت خوفاً وحجاب الهيكل تمزّق” (من قراءات خدمة الآلام)
خلاصنا بالصليب
نحن نردد أنّ المسيح خلّصنا، ولكن من أيّ شيء خلَّصنا؟ وهل نتصرف نحن كمخلَّصين.
“العالم يئن تحت وطأة الشرير”، هذه عبارة وردت وردت في رسالة يوحنّا (1 يوحنا 19:5)، تصوّر لنا حقيقة عالمنا. بنو البشر يتآكلون: واقع مجتمع لا هويّة له، لا شخصيّة له ولا لحمة تجمع شمله: اجتماع أنانيّات متراصّة. هذا عالم رفض الله، رفض الحياة، فتَّش عن إشباع غرائزه، عن وسائل رفاهيته، عن تنظيم رغد عيشه، فلا مكانة لليّد فيه. انغمس في المادة وتناسى المعنى العميق للوجود.
حينما كان المسيح مجتمعاً مع تلاميذه في العليّة، ليأكل الفصح معهم، شعر التلاميذ بحزن عميق: فرح اللقاء الذي أفعمَ قلوبهم كان مبطناً بإحساس القلق وألم الفراق المقبل. وكأن السيّد أدرك ما يختلج في قلوبهم فقال: “لن أترككم يتامى”. سيفارقهم بالطبع ولكنّه سيعود في مجده! وكم تذكّر تلاميذه، في ما بعد، عبارته الأخيرة التي طالما شدّدت عزائمهم “ثقوا بأنّي قد غلبت العالم” ! أجل الكنيسة تكافح عدواً مغلوباً، انكسرت شوكته فلا نيأسنَّ أبداً! السيّد ينجيّ كلّ من يتّكل عليه من فخاخ الشرير ومن تجارب الدنيا تماماً كما خلّص دانيال في جبّ الأسود.
في نهار رفع الصليب، (14 أيلول)، يمسك الكاهن الصليب بيده اليمنى ثم يبارك الجهات الأربع، الممثّلة بجسد المسيح المعلّق على الصليب. ثم يبتدئ بالانحناء رويداً رويداً والشعب يرنّم: “يا ربّ ارحم”. مئة مرة ويتابع الانحناء، والابتهالات مستمرّة، حتّى إذا ما توصّل المرتلّون إلى العدد الخمسين يكون الكاهن قد وصل برأسه تقريباً على الأرض والصليب معه. هذا يرمز إلى أنّ الصليب يغوص إلى أدنى مرتبة قد يصل إليها الخاطئ، يغوص إلى أعماق شقاء الإنسانية… ثم يعود الكاهن فينتصب رويداً رويداً ويرفع الصليب إلى فوق رافعاً الشعب معه مشيراً إلى كلام السيّد: “عندما أرتفع سأجتذب إليّ العالم” (عن كتاب “الايقونة” شرح وتأمل)
22 Shares
22 Shares
Tweet
Share22