في الوقت الذي قرّر فيه السياسيّون في لبنان التزام الصوم عن الكلام حتّى انقشاع الرؤية، استمرّت المرجعيّات الدينيّة في الجدال السياسيّ. وإذا كان الناس لا يأخذون الساسة مأخذ الجدّ في غالب الأحيان، فهم يهابون المرجعيّات الدينيّة لأنّهم يعتقدون أنّ هذه المرجعيّات تؤمن حقًّا بما تقول وتصرّح به. لذلك، انتابهم القلق ممّا قيل على منابر الوعظ والإرشاد في شأن الرؤية المستقبليّة لأكثريّات تحكم وأقلّيّات تخضع للواقع العدديّ، ولا سيّما أنّ البعد الطائفيّ يؤدّي دورًا كبيرًا في تغذية هذا الجدال الرهيب.
لا يعنينا البتّة أن نعرف لمَن يعطى مجد لبنان، فهو مجد زائل في كلّ الأحوال. المجد لله وحده دائمًا وأبدًا، ومن العبث أن نبحث بشكل حياديّ عن إجماع على هذا الأمر. فلكلّ طائفة مجدها ومَن تعتبره صاحب المجد والسؤدد والضمانة لها في مصارعتها الآخرين على حفظ مكتسباتها. غير أنّ مسؤوليّة الجميع تكمن في الحفاظ على لبنان حتّى يبقى ثمّة مجد يُنسب إليه، فماذا ينفع المجد الغابر بعد خراب البصرة والبكاء على الأطلال؟ وماذا ينفع هذا المجد مع انقسام اللبنانيّين وتشرذمهم إلى جماعات طائفيّة لا يجمعها أيّ قاسم مشترك أو أيّ ثوابت ومسلّمات وطنيّة توحّدهم في مواجهة مصائر قد تجعل بلادهم جميعًا قاعًا صفصفًا؟
ما يعنينا، في واقع الأمر، هو استسهال المرجعيّات الدينيّة استعادة خطابات الحروب الأهليّة التي عصفت بنا منذ قرن ونصف وما زالت تذرّ بقرونها منتظرة سانحة جديدة لتهبّ وترمينا بالنار والحديد. ففي مقابل أمر يبدو للوهلة الأولى بديهيًّا يقارن الديموقراطيّة اللبنانيّة بالديموقراطيّات الراقية في العالم الغربيّ مع إغفال الضرورات التوافقيّة بين الطوائف المؤسّسة للكيان اللبنانيّ، يأتينا مَن يذكّرنا بالديموقراطيّة العدديّة متسلّحًا بتفوّقه السكّانيّ. وما يزيد من إرباكنا في هذا النقاش هو أنّه، وعلى الرغم من سمو شأنه، يبقى آنيًّا وظرفيًّا قد يتغير مع تغيّر نتائج الانتخابات المقبلة، فنجد صاحب الموقف الأوّل ينادي بالديموقراطيّة التوافقيّة وبتمثيل الجميع، فيما يكفّ صاحب الموقف الثاني عن المناداة بالديموقراطيّة العدديّة لأنّه لم يعد بحاجة إليها ليحكم البلاد والعباد.
بيد أنّ كلا الخطابين يصبحان مقبولين لو كانا قائمين على المواطنة والمساواة التامّة بين اللبنانيّين، ولو لم يكن منطلق الاثنين طائفيًّا. لكنّ الإيمان بالمساواة بين اللبنانيّين على أساس المواطنة ما زال مستحيلاً في ظلّ هذا الشحن اليوميّ للغرائز الطائفيّة والمذهبيّة. أمّا موضوع إلغاء الطائفيّة السياسيّة اليوم فلن يكون واقعيًّا قبل أن يغلّب اللبنانيّون، في الشأن السياسيّ، المبدأ الوطنيّ على المبدإ الطائفيّ. هكذا يلتقي الخطابان جوهريًّا وفعليًّا من حيث إنّهما يتعاملان مع اللبنانيّين بكونهم طوائف، لا بكونهم مواطنين أحرارًا من قيدهم الطائفيّ في علاقاتهم مع المواطنين الآخرين.
راجت في الثمانينيّات من القرن الفائت لدى إحدى المرجعيّات الإسلاميّة الدعوة إلى اعتماد الديموقراطيّة العدديّة “القائمة على مبدأ الشورى”. وقد أوضح هذا المرجع الذي تخلّى عن مشروعه هذا مع إقرار اتّفاق الطائف، أنّ ما يعنيه بالديموقراطيّة العدديّة “الأفراد بقطع النظر عن انتمائهم المذهبيّ. نعني أن تتكوّن أكثريّة غير مذهبيّة وغير دينيّة. أكثريّة مختلطة من كلّ المسلمين ومن كلّ المسيحيّين لأجل التوصّل إلى إدارة شؤون البلاد والاستمرار في صناعة التاريخ” (الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في مقابلة مع مجلّة “النهار العربيّ والدوليّ”، 22 تمّوز 1985). لا يستقيم لدى الشيخ شمس الدين طرح الديموقراطيّة العدديّة من دون قيام أكثريّة مختلطة. وهذا الشرط نفسه لا يستقيم الخطابان المذكوران أعلاه من دونه.
عسى أن يترافق صوم رمضان المبارك بصوم يشبه صوم مريم القرآن التي نذرت للرحمن صومًا ألاّ تكلّم إنسيًّا (مريم، 26). فالصوم عن الكلام أفضل من نحر الديموقرطيّة بعد إلصاق نعوت شتّى بها تفرّغها من مضامينها الحقيقيّة. أليس الكلام عن الديموقراطيّة التوافقيّة أو الأكثريّة أو العدديّة قبل شيوع المواطنة من قبيل الحقّ الذي يراد به الباطل؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 6 أيلول 2009