الشاعر مريد البرغوثي في نتاجه الأخير من المقاومة نبدأ وإليها نعود

الأب جورج مسّوح Sunday September 27, 2009 177

يعيد إلينا الشاعر مريد البرغوثي الرجاء المفقود منذ زمن بقدرة الفلسطينيّين على استرجاع حقوقهم بأرضهم التاريخيّة فلسطين. فكتابه النـثريّ الأخير “وُلدتُ هناك، وُلدتُ هنا” (دار رياض الريّس للكتب والنشر) يتضمّن نصوصًا متفرّقة تشهد لعزيمة الشعب الفلسطينيّ وإصراره على التشبّث بمنازله وبساتينه وذكرياته، والأهمّ التمسّك بهويّته الفلسطينيّة. مَن يقرأ هذا الكتاب يزداد اقتناعًا بأنّ فلسطين لن تموت، وإن بدا عليها التعب والإرهاق وآثار الأمراض كافّة. وهذه القناعة غير متولّدة عن أوهام أو عن أضغاث أحلام، بل عن قراءة واقعيّة ليوميّات شعب قرّر الصمود وعدم الاستسلام لمصير يريده المحتلّ حتميًّا.

يخصّص مريد البرغوثي الجزء الأكبر من كتابه لرواية زيارته وابنه “تميم” لفلسطين، وحصول تميم على بطاقة الهويّة الفلسطينيّة. فتميم المولود في القاهرة من أمّ مصريّة، هي الكاتبة رضوى عاشور، لم يحصل على جنسيّة أمّه التي أصرّت على أبيه أن يسجّل في شهادة ميلاده “فلسطينيّ” في خانة جنسيّة الأب، فيما كان هو يفكّر بتسجيل “أردنيّ” بحسب جواز سفره. هو الفلسطينيّ الذي لم يعرف فلسطين إلاّ شابًّا استعاد هويّته الضائعة في فعل يماثل المقاومة الحقيقيّة للاحتلال الإسرائيليّ الذي يشاء أن يمحو ذكر لفظ “فلسطين” من ذاكرتنا وذاكرة العالم. وهذا ما يستنكره الشاعر إذ يعتبر أنّ ثمّة “تفكيرًا جهنّميًّا أدّى إلى أن يسمّى شرق فلسطين الضفّة الغربيّة”، ويتابع قائلاً: “لكي تضيع فلسطين أرضًا كان يجب أن تضيع لغةً أيضًا”. والمؤامرة مستمرّة.

يتساءل مريد البرغوثي عن حقّ: “مَن قال إنّ خلافنا مع إسرائيل خلاف دينيّ؟”، ويجيب عن حقّ أيضًا: “هذا الخلاف لم يبدأ من السماء ولن يحلّ في السماء بل هو خلاف على هذه الأرض، بدأ بسبب احتلالها ولن يجدّ حلاًّ إلاّ بإنهاء الاحتلال. مشكلتنا مع اليهوديّ ليست في سمائه بل في خوذته التي تدّعي أنّها السماء، وفي بندقيّته المصوّبة على رؤوسنا منذ عشرات السنين”. هي، إذًا، قضيّة حقّ إنسانيّ بالحرّيّة والأمان لشعب احتلّت إسرائيل أراضيه وطردته منها، وزرعت المستوطنات كالفطر السامّ، وسجنت رجاله وشبابه المقاومين، وقطعت طرق التواصل بين أبناء الشعب الواحد، وبنت جدارًا للعار يعتبره البرغوثي بلغة شاعريّة تبرز الواقع المرعب “جدار الترانسفير الصامت”، “هذا الجدار مصمّم لسجن جماعة إنسانيّة كاملة”، “الجدار يجعلك تشتاق إلى الألوان”… هذا الجدار لن يستطيع قهر إرادة الشعب الفلسطينيّ، إذ هو يغري بكثير من الأمور، “يغري بالمهدّات والمثاقب والمتفجّرات”…

يسرد مريد البرغوثي في أحد فصول الكتاب يوميّات زيارة وفد برلمان الكتّاب العالميّ الاستطلاعيّة إلى رام الله وبعض القرى والمخيّمات الفلسطينيّة، وينقل بعض ما قاله بعض أعضاء الوفد، ولا سيّما الروائيّ البرتغاليّ الحائز جائزة نوبل للآداب خوسيه ساراماغو الذي قال “إنّ الفلسطينيّين يعيشون في معسكر اعتقال كبير، وشبّه رام الله بأوشفيتز”. ولم يجد ساراماغو ما يردّ به على منتقديه الذين اتّهموه بأنّه وقع ضحيّة الدعاية الفلسطينيّة “الرخيصة” سوى القول: “إنّي أفضل أن أكون ضحية الدعاية الفلسطينيّة الرخيصة بدلاً من أن أكون ضحيّة الدعاية الإسرائيليّة الباهظة التكاليف”.

لا يرى مريد البرغوثي أيّ بارقة أمل في قادة الأنظمة العربيّة التي تخاذلت وحاربت القضيّة الفلسطينيّة خوفًا من أن يسقطوا عن عروشهم إن تكبّدوا عناء الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينيّ. هو لا يرى أملاً ساطعًا إلاّ في هذا الشعب المقاوم “الذي حسبوا كلّ حساباتهم على اختفائه لم يختفِ، وهو باقٍ في جهنّمه الوحيدة التي اسمها الوطن المحتلّ”. والحلّ الوحيد هو هذه الابتكارات المدهشة التي يقوم بها الشعب الفلسطينيّ لمواصلة العيش، المقاومة الدائمة. فيقول في خاتمة الكتاب: “القضيّة الفلسطينيّة الآن تبدأ من البداية مجدّدًا: ألم تكن البداية أنّ أرضًا تمّ احتلالها ويجب أن تُستردّ؟ وأنّ شعبًا طُرد من أرضه ويجب أن يعود؟ هل النهاية التي وصلنا إليها اليوم إلاّ تلك البداية؟”.

لن نقول، معك، أيّها الشاعر الكبير، “فلسطين ضاعت نُعاسًا وغفلةً واحتيالاً. كيف تنعس أمّة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى ذلك الحدّ؟ إلى هذا الحدّ بحيث أصبح وطننا وطنهم؟”. مَن يقرأ شعبك الفلسطينيّ الذي رسمه قلمك لا بدّ سيرى بزوغ فجر عهد جديد لن يتأخّر.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 27 أيلول 2009

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share