المقدّمة
وأنا أنبض بالفرح الذي يعمّ قلوبنا كلما جمعنا الربّ وجهاً الى وجه، أشكر لله إنه جمعنا معاً في هذه الواحة الحركية التي، فيها، نُبنى ونتشارك البناء على الأساس الواحد يسوع المسيح. وأمجدّ إلهنا، كل حين، على هذه الحركة القائمة فيكم وبكم، حركة محبّة الآب في الأبناء وحركة الأبناء في محبّة الآب، شاخصاً الى ما يُقيمنا، أبداً، جماعةً في المسيح ناهضةً إليه، ساعيةً الى كنيسةٍ مأخوذةٍ بجماله وعالمٍ مضاءٍ بنوره. وباتكّال، لامتناه، على محبة مسيحنا أخوض في ما شئت أن أتشارك به معكـم حول ما يخصّ كنيستنا وحركتنا، أيّ حول ما يعني كلّ واحد منّا، دماً وروحاً وقد “أعطي نصيبه من النعمة على مقدار هبة المسيح” (أفسس: 4 :7).
أيها الاخوة، شئت ألا أحمّل تقريري الى مؤتمرنا وجهاً إحصائياً تنفيذياً. وهذا ليس بداعي التقليل من أهميّة هذا الأمر بل لأسباب عدة. أولّها أنه بات، والحمدلله، بمقدور كلّ منكم الاطلاع حين يشاء، عبر قنواتنا الاعلامية، على كلّ ما أقدمنا عليه من خطوات خلال هذا العام تلبيةً لحاجات حياتنا الحركية. ثانيها لأن اجتماعات الأمانة العامّة واكبت مُعظم هذه الخطوات. ثالثها وأهمّها كي أفسح بعض المجال لأولوية تفرض ذاتها علينا اليوم وهي أن نقرأ، بعمقٍ، في معالم الفترة الحسّاسة والمفصلية التي نمرّ فيها، في كنيستنا وحركتنا، ونتوجّه، أولاً، نحو ما تقتضيه منّا.
وبدءاً من هذه الأولوية، ولكون الموضوع لا ينفصل عن هذا الشأن، ووفاءً لراعٍ أعطانا الكثير، أبدأ متأمّلاً في ذكرى المطران الياس قربان الذي إستأثر الله به، مؤخّراً، ليُقيمه في حضن إبراهيم. لقد انتمى الراحل الى كوكبة جمع بين أعضائها محبّتهم الصادقة ليسوع المسيح التي قادتهم الى التحلّي بوداعة القلب والثقة بما تُثمره حرية الأبناء ومواهبهم وفعل الروح القدس فيهم. لهذا اندفع المطران الياس الى رعاية حركتنا حتّى أقصى حدود الرعاية. دافع عنّا وحضر معنا ووثق بنا وبتربيتنا، وتقبّل ضعفاتنا وانفعالاتنا بصمت المُحبّ، ومنحنا حريّة البشارة والشهادة والمبادرة. ولهذا سيبقى في ضميرنا أحد الكبار الذين ترعرعنا ونمونا في فسحات حبّهم وعطائهم لكنيسة المسيح. كما أراها مناسبةً لأسجد للروح القدس شاكراً له أنّه ألهم مجمعَنا الأنطاكي المقدّس حين عاينّا الأب والمعلّم أفرام كرياكوس راعياً لأبرشية طرابلس. وإذ نذكر مساهمة سيادة هذا الأسقف الحبيب في تثبيت الكثيرين منّا في محبّة المسيح والتزامه أسأل الله أن يمّن عليه بالقوّة ومديد الأعوام ليصير بكنيسة الله في هذه المحلّة أقرب الى نقاوة سيّدها وينثر عُطر الكلمة الالهية في الشباب ويرعى مسار حياتهم ويقودهم، مع إخوته الرعاة، في سعيهم الى تتميم مشيئة الله في حياتهم وكنيسته.
المدخل منذ نحو سبعين سنة أنعم الله على إنطاكية بهذه الحركة التي تربّى فيها، الى يومنا هذا، آلاف الشباب على حبّ يسوع المسيح وكنيسته ونموا في هذا الحبّ. وقد لُحِظ من هؤلاء نُخبٌ استحال كلّ من أعضائها قامة نهضوية تمتلك بمفردها، وأيّاً كانت وجوه تكريسها، فرادةً وقدرةً على التأثير والتعليم والتربية على أصالة الايمان وتحصين الكنيسة والحركة في وجه ما قد يعصف بهما. وشاءت محبّة الله وإرادته، في كنيسته، أن تكون، أيضاً، مواهب بعض هؤلاء وقدراتهم في خدمة كنيسة المسيح وهم في الموقع الأفعل فيها، فاتّجه هذا البعض إلى التكريس الإكليريكي والرهبانيّ وكان منه من تربّع على عرش الأسقفية. وأيّا كان تقويم كلّ منّا لما استطاع هذا أو ذاك منهم إنجازه، وأيّاً كان تقويمنا، كجماعة، للفترة التي قاد فيها بعضهم حياتنا الكنسية، أو ما زال يقودها، قياساً إلى مرجوّاتنا النهضوية، فإن مما لا شكّ فيه أن زمننا الكنسيّ والحركي قد خُتم، إلى اليوم، بسمات هذه النُخب وآثارها، وتنعّم بما أرخت في ظلاله من دعمٍ وضمانٍ لاستقامة المسيرة وأمانتها للربّ.
وإن شئت أن أذكّر ببعض هذه السمات، اليوم، فليس بهدف تمجيد الأشخاص بل للتأكيد على حاجتنا إليها وإلى أن نجدّ في التربية عليها. هذا إن شئنا أن نتلافى مستقبلاً مقلقاً لكنيستنا وحركتنا، خصوصاً وأن معالم ما يقلق، في هذا المستقبل، بدأت تطلّ في حياة كنيستنا. ما ميّز هؤلاء القادة واستحال بهم مُثلاً هو أنهّم أحبّوا المسيح حبّاً كبيراً سعى بهم نحو أن يُخلوا ذاتهم من الأنا ليسودها وحده. فسلكوا درب التكريس كخيار خلاصيّ عُشقيّ للربّ منزّهٍ عن الأهواء والحاجات الخاصّة. ودافعوا عن الحقّ في الكنيسة إرضاءً ليسوع المسيح وحده وبجرأة الزاهد بكل وجوه الدنيا فيها دون حساب لأمرٍ أو أحد. ولم يسلكوا في سعيهم الى بناء النفوس طريق “حكمة العالم” بما تقتضيه من خدمة للذات وتقنينٍ للروح والمواهب في الآخرين بل ما يجسّد قول الرسول “حيث روح الربّ هناك حريّة” (2كو 3 : 17) ويخدم الخلاص وينشر روح الفداء في الجماعة لئلاّ “يفقد موت المسيح على الصليب قوّته” (1كو: 1 – 17). وانكبّوا على المعرفة والثقافة بدافع التزامهم الايمانيّ وبغاية زرع الروح الالهي في اهتمامات العالم وهموم الناس دون أن يحتقروا هذه الاهتمامات ويترفّعوا عن الهموم. ما ميّزهم بيننا أنهم حصروا ذواتهم في إنجيل الربّ دون أن يحصروا الله بهم. فوعوا، بهذا، أن المسيح “كلّ في الكلّ” وسعوا إليه في كلّ وجهٍ حيّ ووجهِ حياة.