الصومُ شَرِكة

mjoa Friday February 12, 2010 246
“وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ” (يوحنا 22:17)
يسعى الإنسان إلى الشركة التي نموذجها الكامل في الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس. فبالرغم من الفرق بين الأقانيم إلا إنهم معًا منذ الأزل مشتركون بالمحبة. لقد خُلِقنا على هذه الصورة الإلهية لذا نشترك بالطبيعة البشرية نفسها فيما نحن مدعوون إلى أخوّة كونية من المحبة. لكن الشركة مع الإنسان وحدها لا تكفي، فدعوتنا ليست لنكون على مثال الله وحَسْب بل لنتّحد به أيضاً. ولكي نختبر شركة الثالوث الحقيقية، نحتاج لوجود الثالوث فعلياً في حياتنا. لهذا، التجسّد هو السرّ الذي يجعل الشركة بين الثالوث والبشرية ممكنة، من خلال يسوع المسيح. وتتحقق هذه الوحدة على الصليب حيث يرتفع المسيح على تقاطع العمودين، موحّداً الله مع الجنس البشري وفي الوقت عينه موطّداً شركة البشر فيما بينهم. إنّه البوّابة التي تمنحنا الوصول إلى مودّة الثالوث القدّوس إذ كإخوة للمسيح نصير أبناءً للآب ونشترك في محبته الأبوية المُنجَزَة بالروح القدس.
“لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ” (متى 20:18)
من هنا أن الكنيسة هي مكان التعبير بشكل كامل عن الشركة حيث المسيح موجود في وسط الجماعة في القداس الإلهي. لذا، من خلال حياة الكنيسة الليتورجية كلّها، يدخل الثالوث القدوس في حياة المؤمنين متغلغلاً في كل أوجه وجودهم. كمسيحيين، ينبغي أن تكون كلّ حياتنا ليتورجيا، أي سعياً دائماً للإقامة في الشركة مع الله ومع إخوتنا في الإيمان. وعلى أساس هذا الفهم تكون الحياة المسيحية حياةَ مشاركة وتفهّم ومحبة لا حياة أنانية وعداوة وكراهية.
“لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ” (1يوحنا 16:2)
نحن نحيا في عالم ساقط وغالباً ما تكون قِيَم الحياة المسيحية منسية. فالناس، لتحقيق ذواتهم، يميلون إلى التفرّق والبحث عن طرق عيش فردانية بدل أن يسعوا للتجمّع حول الكنيسة. إن أهم مشاكل مجتمعنا اليوم هي أن الهدف الجماعي منسي لصالح الكسب الشخصي. غالباً ما يقول الناس: “لا نستطيع أن نطيع قوانين الكنيسة، لأنها صارمة… العالم يتبدّل فيما كنيستنا لا… لا نستطيع أن نتبع أيًا كان…” وللأسف، يترك الكثيرون الكنيسة سعياً إلى ما هو أسهل. السبب الفعلي للتفكير على هذا المنوال هو النقص في فهم الوحدة الليتورجية كشكلٍ أساسي للتعبير عن الشركة في الكنيسة.
“كذلك أنتم متى فعلتم كلّ ما أُمِرتم به فقولوا إننا عبيد بطّالون، لأننا إنّما عملنا ما كان يجب علينا” (لوقا 10:17)
لهذا، عندما نصوم بحسب توجيه الكنيسة نكون في شركة كاملة مع كلّ مَن يقوم بذلك، أي مع كل الصائمين من الأحياء، كما مع كلّ الراقدين من الصوّامين، ومع الآباء الرسوليين الذين وضعوا قوانين الصوم وكمّلوها، وفوق كل هذا مع يسوع المسيح الذي علّمنا بشكل مباشر أهمية الصوم في حياتنا الروحية. بالالتزام بقواعد كنيستنا نكون مشاركين بشكل كامل في جسد الكنيسة الحيّ مشتركين بالروح الإلهي الذي يجري في عروقها. من جهة أخرى، لا يعطينا الصوم، ولا غيره من الممارسات النسكيّة التي نحن مدعوون لإتمامها، أيّ امتياز شخصي. لا يصوم الإنسان لكي يكون أفضل من إنسان آخر، ولا ليقارَن به، بل ببساطة ليكون مثل كلّ الآخرين. ما من انتفاخ في اتّباع قوانين الكنيسة، إذ إن هذا هو الحد الأدنى مما هو مطلوب منّا. في الإطاعة المشتركة للقوانين الحكيمة التي وضعتها الكنيسة نأتي معاً كإخوة، عاضدين بعضنا بعضاً، غافرين بعضنا لبعض ضعفاتنا، متحرّكين ككتلة واحدة، متّحدين، نحو غاية الجنس البشري الأخيرة.
“فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ” (يعقوب 17:5)
القواعد نفسها، في بروزها من وديعة الوحي الكونية في الكنيسة الواحدة، هي ثمرة الشركة. لم تأتي القوانين العملية للحياة الروحية من العدم، ولا هي عمل بعض رجال الكنيسة الذين كانوا بلا عمل آخر، بل هي تمثّل قُطارَة الوحي الإلهي لمختاريه، أي آباء الكنيسة، وقد اختبرتْها أجيال وأجيال من المؤمنين الذين خَلُصوا بالالتزام بها. والكنيسة، استناداً إلى هذه الخبرة المتراكمة في وعيها المشترك عبر التاريخ، صارت قادرةً على أن تميّز ما هو نافع عمّا هو ضارٌ لحياتنا الروحية. لقد رأت الكنيسة أيّاً من الأطعمة يجعلنا أكثر ميلاً إلى التأمّل والصلاة وأيّ يجعلنا ثقيلين بليدين ومهمِلين لحاجات النفس. تعرف الكنيسة ما هي المتطلّبات النافعة للنفوس وقد جسَّدَتها في ترانيمها وصلواتها. لقد أدركَت الكنيسة الفضائل التي نحتاج أن نسعى إليها لكي تجعلنا أكثر قرباً من أهدافنا الروحية.
“لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ” (يعقوب 26:2)
كيف يستطيع مَن فهم هذه الخلفيّة أن يقول فيما بعد: لا بدّ أن يكون هناك طريق آخر إلى الله، من دون الصوم والأسرار، ومن دون الكنيسة وكلّ ما تطلبه منّا؟ التفكير على هذا المنوال لا يقود إلاّ إلى الانفصال التدريجي عن الجسم المؤلَّف من المؤمنين في محاولة فردانية أنانية لبلوغ هدف جماعي. ترتليانوس، في القرن الرابع قال: “( unus Christianus, nulus Christianus) مسيحي واحد، لا مسيحي”. لا نستطيع أن نكون مسيحيين ونعمل عكس الكنيسة وكأننا لوحدنا، وكأن كلّ شيء هو بيننا وبين الله فقط، متناسين أنّه هو رأس الكنيسة. إذا أردنا أن نصل إلى المسيح والمسيح في الكنيسة، كيف يمكن أن نكون في الوقت عينه خارج الكنيسة؟
“اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ، عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هذِهِ الآلاَمِ تُجْرَى عَلَى إِخْوَتِكُمُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ” (1بطرس 8:5-9)
لذا، ينبغي أن تكون حياتنا كلها ليتورجيا، أي خدمةً مقدّمةً إلى الله وإلى إخوتنا، جهاداً مستمرّاً لنكون واحداً مع جسد المسيح، عن طريق الالتزام بالإطار المقدّس الذي وضعتْه لنا أجيال من القديسين. والطريق الوحيد للصعود على السلّم الإلهي هو في التخلّي عن نزعاتنا الأنانية التي تميّز الطبيعة الساقطة، وتَرْك فكرنا المتمحور حول ذواتنا. ليس اتّباع المسيح شأناً خاصّاً، كما يفتكر الكثيرون مخطئين، بل هو سعي تعاوني وثمرة لاشتراك كل الكنيسة في الجهد الذي سوف يعتِق لا الإنسان وحسب، بل الكون كلّه معه.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share