أسبوع طويل أمضيته محاولا التعرف إليك. دعوتك في مطلعه، بعد أن شهدت إقامة صديقك الرباعي الأيام، فصرخت نحوك يا غالب الموت: أسرع لأن الموت قد غلبني. فلبيتَ الدعوة بامتنان وقدِمت بتواضعك المعتاد لتدخل إلى بيتي. وصلتَ البيت وطرقتَ الباب إلا أن أحدا لم يلبي نداء الطرقات. كانت روحي منهمكة بصخب هذا العالم وصمّ ضجيج الخطايا أذنَيّ عن سماع هدوئك على بابي. رحلتَ، لأنك خفِر فأنت لا تقتحم النفوس بل تدخل بعد أن ترتفع الأبواب. رحلتَ، لأنك اعتدت أن يهزأ بك الناس ويحتقروك.
قرّرتَ، بعد أن بقي الباب مغلقا في وجهك أن تذهب إلى الهيكل لتعلم، فهناك أناس متعطشون لسماع كلمتك، أناس جاهزون للتوبة عما يعارض قولك، حالهم أفضل بكثير من أولئك الذين يدعون شخصا إلى منزلهم ثم حين يُقبل لا يستقبلونه. هل يشبه الجنون شيء غير ذلك؟
مضى يومي على مضض. قررتُ بعده أن أحافظ على عهودي التي قطعتها معك، فجهزت نفسي الشقية، طرحت كل الإهتمامات الدنيوية، لبست حلة بهية، هيأت المصباح وذهبت للقياك. إتخذتُ هذا القرار لأني كنت أكيدا أنك نسَيتَ ما قد فعلته بك في الأمس وأيضا لأني سمعتُ أنك لا تؤثر هلاك الخاطئ وعلِمتُ أنك إنما اتيتَ إلى حيّنا باحثا عن أمثالي الأشقياء لترشدهم إلى الطريق القويم، إليك.
أشعلتُ قنديل الزيت حتى أراك بوضوح حين تأتي ورحت انتظر. مرّ وقت طويل وأنت لم تقدم، ربما لأن آخرين انهاروا من حمل أثقالهم فمررتَ بهم قبلي كي تريحهم. بدأت مؤونتي تنضب، نفذ صبري وانطفأ ضوء أملي، غشِيَتني الظلمة. فرُحت أتلمّس طريق الخروج إلى أن عدت إلى ضوء الخطيئة، ففكرت في نفسي: ضوء الخطيئة ولا ظلمة الإيمان. وصرت أتعلل بعلل هذا العلم. اليوم أيضا أخطأت طيفك.
أيقظني أحدهم في اليوم التالي ليقول لي أن المعلم قد حضر وهو يدعوني. غريب أمر هذا المعلم الذي ما زال يضع ثقته بي بعد أن فقدتها بنفسي، ما زال يصر على لقائي بعد كل ما فعلت. ماذا يريد مني؟
أن يجرحني بمحبته العنيفة التي لا تستثني أحد؟
أن يجلسني معه على طاولة العشاء، يطعمني جسده ويسقيني دمه؟
أن يغسل رجلي بماء الحياة فلا أسلك في سبل الشر بعدها؟
سألتُ عن مكان وجوده فقالوا لي إنه في بستان الزيتون راكعا يصلي، يعيش نزاعا لأن أمرا رهيبا ينتظره أما تلاميذه الأخصاء فنيام. غضبتُ وأخذتُ على عاتقي أن أوقظهم ليساندوا معلمنا في خوفه وأن أركض إليه وأرتمي على عنقه وأقبله معبرا له عن أسفي لكل ما حدث سابقا وواعدا إياه وعدا أبديا بأني لن أتركه. إلا أن يهوذا سبقني إليه وعاجله بقبلة التسليم.
ساقوه، حاكموه صلبوه.
جذبني إليه وجهه الجميل المدمى ويداه الممدودتان لتضمان العالم، هرعت نحو الصليب فقط لأرى عينيه المفتوحتين وأسمع تنهده المنهك إلا أنه صرخ بصوت عظيم وأسلم الروح.
مات فرحي.
تجرأ الرامي وأنزله عن الصليب فدفنه، مانعا بذلك ان يرموه على المزبلة خارج المدينة لأن الذي يُعدم صلبا لا يُدفن. وضعه في قبر وكنتُ أنا من بعيد أنظر وبعد أن دحرج حجرا على ضريحه الصغير رجعتُ إلى منزلي لأن القصة بالنسبة لي قد انتهت.
فرحي، أنت تعرف أن الموت وحده يرعبني فماذا ذهبت تفعل هناك؟ هل إلى هذا الحد أردت ان تكون مثلي؟ حتى في الموت شاركتني؟ الموت عادة يبتلعنا، يمرمرنا، هل فعل بك كما هي العادة؟ هل عايشته؟ هل خالطته؟ هل كنته؟
يا فرحي، أين أنت اليوم؟
لست في الموت، لست في الحياة. أكيد أنك لست داخل القبر لأن القبر فارغ. هل أنت حي خارجه؟
يا فرحي، أين أنت اليوم؟
بالأمس رأيتك فاقد النسمة مدرجا بالسباني ومحنطا بالطيب واليوم أرى السباني موضوعة وحدها دونك. الموت أخرس اليوم وهو لطالما تفاخر وبشر بفرح كلما قبل إنسانا داخله. ألعلك لست بإنسان؟ الدنيا بكماء اليوم لأنها تعجز عن وصف ما حدث.
البعض يقول بأنك قد قمت وآخرون أنك سُرقت.
فرحي لن أسمع لأحد الآن. سأذهب بنفسي غدا لأتأكد بأنك لست في الموت ولا في الحياة بل أنك سيد الموت والحياة، أنت في المطلق. سأذهب بنفسي غدا لأشاهد الموت لا صورة له ولا رهبة، لا لم تعايشه، لا لم تخالطه، لا لم تكنه. مرمرته.
فرحي، سأرقد الآن على رجاء القيامة غدا.
30-4-2005
الساعة التاسعة مساء