لم يفهم التلاميذ الاثنا عشر جوهر تعاليم السيّد المسيح إلاّ بعد قيامته من بين الأموات. أمّا أكثر ما التبس عليهم فهمه فحديثه عن الملكوت الآتي. حتّى بعد قيامته نراهم يسألونه: “أفي هذا الزمن تعيد المُلك إلى إسرائيل؟”. كان عموم اليهود آنذاك وما زالوا إلى اليوم ينتظرون مجيء مسيح يملك على الدنيا ويخضعها تحت أقدامهم. هو، في معتقدهم، مجرّد ملك أرضيّ سوف تدين له أمم الأرض كافّة بالولاء. وهذا ما كان عليه أيضًا تلاميذ المسيح، على ما يؤكّده الإنجيل حين قال: “هذه الأشياء لم يفهمها تلاميذه أوّلاً، ولكن لمّا مُجّد يسوع تذكّروا أنّ هذه (أي النبوءات) كُتبت عنه”.
دخول المسيح إلى أورشليم راكبًا على جحش، على دابّة حقيرة، قلب هذا المفهوم اليهوديّ رأسًا على عقب. ولا غرو أن يصاب اليهود بصدمة عارمة إذ رأوا ملكًا ليس كسائر ملوك الأرض قاطبة، ليس جبّارًا ولا طاغيةً، وليس قائد عسكر، بل وديع ومتواضع. وأفضل ما يمكن أن يوجز لنا قصد المسيح من هذا الحدث قول أوغسطينوس المغبوط أسقف هيبّون (+٤٣٠): “المسيح لم يكن ملك إسرائيل حتّى يجبي الضريبة ويضع سيوفًا في أيدي الجنود ويقهر الأعداء بحرب معلنة. كان ملك إسرائيل في ممارسة سلطته على طبيعتهم الداخليّة وفي إسداء المشورة لهم من أجل مصلحتهم الأبديّة وفي إدخال ذوي الإيمان والرجاء والمحبّة إلى ملكوت السماء”.
ليس حدث الشعانين من حيث مقاصده منفصلاً عمّا سبقه من أحداث. فالمسيح أخبر تلاميذه، في مواضع عدّة من الإنجيل وبخاصّة على مشارف تسليمه للصلب، برأيه الصريح في السلطة والسلطان. ومع ذلك بقي التلاميذ غافلين عن إدراك كنه رسالة معلّمهم. فيعقوب ويوحنّا طلبا إليه أن يجلسا “واحد عن يمينك وواحد عن يسارك في مجدك”، ما أثار غضب العشرة التلاميذ الآخرين. لم يحدّثنا الإنجيل عن خلاف نشب بين التلاميذ إلاّ حين بدأوا يتوسّلون المناصب والمجد والأرضيّ لأنفسهم. لم يختلفوا إلاّ حين دخلت جرثومة السلطة في عقولهم وعبثت فيها.
أمّا المسيح فنبّههم إلى أنّ مَن شاء أن يتبعه فعليه أن يعي أوّلاً أنّ السلطة خدمة وحسب: “مَن أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبدًا”. والمسيح نفسه أعطى تلاميذه الأسوة الحسنة حين غسل أرجلهم وطلب منهم أن يقتدوا به: “فإذا كنت أنا الربّ والمعلّم قد غسلت أرجلكم فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”. هكذا تكون السلطة، بالمعنى الذي أراده المسيح، خدمة عامّة لا منفعة خاصّة. هي خدمة للمستضعفين، وليست استعبادًا لهم. هي القبول بأن يصلب المرء نفسه حبًّا بالآخرين لا أن يصلب الآخرين حبًّا بنفسه.
كان اليهود يرون في المسيح المنتظر نبيّ الأزمنة الأخيرة الذي يرسله الله إلى العالم ليقود حركة قوميّة يهوديّة لتحرير إسرائيل من سطوة الأمم. لكنّهم حين أدركوا أنّ مشروع يسوع المسيح الخلاصيّ لا يتلاءم مع مشاريعهم الأرضيّة انقلبوا عليه وتآمروا لقتله، لأنهم اعتبروه خطرًا عليهم وعلى أطماعهم. والملك المتواضع الذي يدخل أورشليم اليوم ليس سوى صورة مسبقة للملك الذي سيُصلب فداءً من أجل حياة العالم. تستقبل أورشليم اليوم المسيح ملكًا وتصلبه بعد خمسة أيّام مرذولاً. الجموع التي تستقبله اليوم مناديةً “هوشعنا” (أي خلّصنا)، هي نفسها ستهيج صارخة بعد ستّة أيّام أمام بيلاطس “خذه، خذه، اصلبه”.
المسيح الملك المتواضع القلب “جدل سوطًا من حبال وطرد (التجّار واللصوص) كلّهم من الهيكل مع الغنم والبقر، وبعثر نقود الصيارفة وقلب مناضدهم”. نعم، المسيح نفسه، هو مَن جدل سوطًا وطرد “اللصوص” من الهيكل، لأنّ الغيرة على بيت الله أكلته. متى ستأكلنا الغيرة ونطرد اللصوص الذين جعلوا المسيح على صورتهم، ولم يسعوا البتّة إلى أن يصيروا هم على صورة المسيح؟ متى ستأكلنا الغيرة لطرد مَن يشوّه المسيح كي يستبيح الهيكل؟ وهل من هيكل حقيقيّ لله سوى ذاك الذي صُنع من لحم ودم؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 28 آذار 2010