عندما طلب الفريسيّون من السيّد المسيح أن يجترح أمامهم إحدى المعجزات أجابهم مؤنّبًا: “جيل شرّير فاسق يطلب آيةً، ولن يكون له سوى آية يونان (يونس) النبيّ. فكما بقي يونان ثلاثة أيّام بلياليها في بطن الحوت، كذلك يبقى ابن الإنسان ثلاثة أيّام بلياليها في جوف الأرض” (متّى 12، 38-40). وقد قصد المسيح، في جوابه هذا، الإشارة إلى النبوءات المختصّة بقيامته من بين الأموات بعد صلبه ودفنه. ونجد صدًى لهذا التأنيب في ما كتبه الرسول بولس إلى أهل كورنثوس في رسالته الأولى: “اليهود يسألون المعجزات، واليونانيّون يريدون الحكمة. أمّا نحن فنكرز بالمسيح مصلوبًا شكًّا لليهود وجهالةً للأمم” (1، 22-23). هنا يوبّخ الرسول مَن لا يزال من بعد قيامة المسيح يطلب معجزة أو آية أو حكمة. فالقيامة هي معجزة المعجزات، وليست في حاجة إلى براهين إضافيّة حتّى يصدّقها الناس، وبخاصّة بعد الشهادات المتواترة التي نقلها شهود القيامة والموجودة في الأناجيل الأربعة وفي كتاب أعمال الرسل والرسائل.
مع ذلك، يستمرّ بعضهم في انتظار “معجزة” حتميّة تحصل، وفق ما يعتقدون، كلّ عام يوم السبت العظيم الذي يسبق عيد الفصح. ففي ظهيرة هذا السبت يدخل البطريرك الأرثوذكسيّ إلى القبر المقدّس حيث تضاء الشموع التي يحملها بطريقة “عجائبيّة” تلقائيًّا. ويلجأ المعتقدون بهذه الظاهرة العجائبيّة، ظاهرة “النور المقدّس”، إلى محاولة إثبات تاريخيّة هذه المعجزة بردّها إلى العصر المسيحيّ الأوّل، لكنّ الحجج التي يستندون إليها حجج ضعيفة مستلّة من روايات ومراجع ثانويّة، ولا تتّسم بالموضوعيّة، أو يستشهدون بنصوص غير واضحة الدلالة، أو أنّها لا تؤكّد المعجزة كما في تلك اليوميّات المنسوبة إلى الرحّالة إيجيريّا في رحلتها إلى فلسطين.
ودرجت هذه الظاهرة في لبنان منذ فترة قريبة، وبات جمهور من الناس ينتظرها بشغف. ما نخشاه في هذا السياق هو أن يندرج هذا القبول لدى العامّة في إطار تنامي الدين الشعبيّ على حساب اللاهوت والفكر الكنسيّ المستقيم. والمقصود بالدين الشعبيّ هو الدين الذي يهزّ مشاعر الناس بأمور حسّيّة وغرائبيّة تلامس السحر وتحرّك الغرائز الدفينة في أحيان كثيرة. وما نخشاه أيضًا هو أن يتمّ وضع ظاهرة النور المقدّس في إطار تأكيد الهويّة الدينيّة عبر طمأنة مَن يعتقد بها بصحّة إيمانه وتفوّقه على سائر أبناء الكنائس الأخرى، وبصحّة توقيته للفصح وبخطأ ما تبقّى من المسيحيّين، وهذا ما يعزّز الشعور بالتفوّق والاستعلاء. “فاعلموا أيّها الأمم وانهزموا لأنّ الله معنا”، والدليل القاطع قد سطع من القبر المقدّس!
من ناحية أخرى، ينسى المعتقدون بهذه “المعجزة” أنّ الله ليس إله قبيلة، وقد أبطل الاعتقاد بكونه إله قوم من دون قوم آخرين. وينسى هؤلاء انّ هذه “المعجزة” تسبغ شرعيّة على قيادة بطريركيّة يستولي عليها طغمة من المؤمنين بالقوميّة اليونانيّة، إذ يستبعدون العرب أبناء فلسطين من قيادتها الكنسيّة. فكيف يخرج الله من حصريّة القوميّة اليهوديّة ليدخل الحصريّة اليونانيّة؟ أن لا ينزل النور المقدّس إلاّ على البطريرك اليونانيّ من دون غيره من البطاركة الآخرين، كما يزعم اليونانيّون، يجعل عمل الله في الكون محصورًا بهم. أهذا هو إلهنا الحيّ القدّوس؟
في وقت يعاني فيه المسيحيّون العرب في فلسطين من وطأة الاحتلال الإسرائيليّ ومن الهجرة التي بلغت حدّ الأبادة التامّة لوجودهم في أرض آبائهم وأجدادهم، نرانا نتضرّع إلى الله أن يطلّ على هؤلاء بما ينفعهم، وأن يثبّتهم حيث ولدوا وشبّوا واكتهلوا وشابوا. فما فائدة النور المقدّس إن خلت أرض المسيح من المؤمنين به؟ ألم “يتحنّن” يسوع على أرملة نايين فأقام ابنها الوحيد من الموت وردّ إليه الحياة؟ فإن شاء معجزة ذات ثمار حقيقيّة، نتوسّل إليه أن يقيم ضحايا الاحتلال من الموت، وبخاصّة الأطفال كي يحملوا حجارة يرشقون بها جنود الاحتلال، أن يزلزل جدار العار الذي يفصل بين أبناء العائلة الواحدة، أن يعيد الحياة إلى شجر الزيتون والبرتقال التي يقتلعها هؤلاء الجنود، أن يعيد فلسطين إلى أبنائها.
ينشغل بعضهم حيث يجب ألاّ ينشغلوا. “مرتا، مرتا، تهتمّين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”. المطلوب الواحد هو الإنسان. ما عدا ذلك باطل، باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 18 نيسان 2010