اللّبوس لا تصنع القسوس

الأب جورج مسّوح Sunday July 25, 2010 170

الأسقف وفق تعليم الكنيسة هو، على مثال المسيح، خادم لرعيّته يبذل نفسه لأجلها، ولا يضحّي بها في سبيل عزّته وسلطانه. فالمسيح قلب مفهومَي الراعي والرعيّة رأسًا على عقب حين قال: “أنا الراعي الصالح. الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”. في العادة، يقتني الراعي قطيعًا من الغنم فيعلفه وينمّيه كي يهيّئه للذبح، فيما المسيح الراعي فعل عكس ذلك حين بذل نفسه على الصليب من أجل أن تحيا خرافه. رضي المسيح لنفسه أن يصير حملاً ذبيحًا كي لا يُذبح أحد من بعده.

الأسقف، إذًا، يحوز سلطته على رعيّته بمقدار ما يبذل نفسه لأجلها وبمقدار محبّته لها. ليست سلطته قائمة بحقّ إلهيّ لمجرّد تبوّئه منصبه، بل هي خاضعة يوميًّا للامتحان على ضوء أمانته وانسجامه مع ما يتطلّبه موقعه في الكنيسة. يقول المغبوط أوغسطينس (+435) في إحدى عظاته: “لسنا (نحن الأساقفة) رؤساءكم في الحقيقة إلاّ بمقدار ما نخدم مصالحكم الروحيّة”. والمسيح نفسه حذّر تلاميذه من أن يتصرّفوا بسلطتهم بمقتضى هذا الزمان، فقال لهم: “قد علمتم أنّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكون فيكم هكذا. ولكن مَن أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبدًا”، وختم مذكّرًا بأنّه ” لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين”.

يرى أوغسطينس أنّ المسيح حين قال لبطرس الرسول “ارعَ خرافي” إنّما كان يقصد بذلك “تألّم من أجل خرافي”، فلكي يكون المرء أسقفًا فعليًّا عليه أن يكون مستعدًّا لأن يشرب كأس الربّ، أي أن يقبل بالصليب. كما يعلّق أوغسطينس على قول الرسول بولس: “مَن اشتهى الأسقفيّة فقد اشتهى أمرًا صالحًا”، بقوله: “ما ينبغي أن يشتهيه الإنسان ليس الأسقفيّة بل الأعمال الصالحة التي بدونها لا يمكن أن يوجد أسقف حقيقيّ”. ويتابع أوغسطينوس رأيه هذا بقوله: “ليس هناك أسقف غير صالح، فإنّ مثل هذا بمجرّد كونه غير صالح لم يعد أسقفًا قطّ”.

يبدو القدّيس يوحنّا الذهبيّ (+407) أكثر قسوةً حين يعلّق على اشتهاء الأسقفيّة الذي يؤدّي بأصحابه في أحيان كثيرة إلى “الحسد والنميمة والرياء ومحبّة المديح والتعطّش إلى الصيت والتملّق الذميم واحتقار الفقراء والبشاشة للأغنياء والتزلّف والدناءة والمتاجرة والمكسب الخسيس”. وهو نفسه يلاحظ أنّ بعضهم لا يشتهي في الأسقفيّة سوى “النفوذ والسلطة والطمع في المجد”، ويؤيّد رأيه بالقول: “ولا أريد أن أتكلّم عن أنواع من الشدّة والارتكابات التي ملأ بها بعض الناس الكنائس، ولا التخريب الذي زرعوه في أكثر من مدينة ليصلوا إلى الأسقفيّة”.

الأسقفيّة، إذًا، ككلّ موهبة أو وظيفة في الكنيسة، هي سيف ذو حدّين، فإمّا أن تفتح لصاحبها أبواب الحياة الأبديّة أو أن ترمي به إلى الهلاك. وبما أنّ مسؤوليّة الأسقف هي الأكبر في الكنيسة من حيث موقعه وسلطته، فالحساب الذي سيؤدّيه سيكون أعظم من الحساب الذي سيؤدّيه البشر الآخرون. وليس مستغربًا أنّ أعظم الهراطقة والمبتدعين الذين أساءوا إلى الكنيسة إنّما كانوا من الأساقفة ورجال الدين بعامّة. ومن النافل القول بأنّ العالم بالأمور لا يستوي مع الجاهل في كلّ شيء، وبخاصّة في وقفته أمام الله في اليوم الأخير. فمَن يطيق الوقوف أمام الله في ذلك اليوم على حدّ قول كاتب سفر الرؤيا.

ليست الأسقفيّة بحد ذاتها هي التي تجعل الأسقف صالحًا، بل الأسقف بأعماله الصالحة يشرّف الأسقفيّة ويرفع من شأنها. فاللبوس لا تصنع القسوس وفق القول الشائع. وينبغي بالمؤمنين ألاّ يضعوا رجاءهم إلاّ بالله وحده، فأوغسطينس يقول: “فمهما يكن الأسقف، لا تضعوا فيه رجاءكم. كلاّ لا تجعلوا أبدًا لكم رجاءً في إنسان. لا تجعلوا رجاءكم فينا مهما كنّا”. ثمّ يدعو هو نفسه المؤمنين إلى أن يصلّوا من أجل الأساقفة ليكونوا دائمًا على ما يشاء الله أن يكونوا.

منذ نشأة الكنيسة إلى يومنا الحاضر ظهر أساقفة قدّيسون تفتخر بهم الكنيسة، كما ظهر أساقفة نبذتهم الكنيسة لسوء أمانتهم. لكنّ الروح القدس الذي يقود الكنيسة لن يستطيع أحد أن يكمّه ويمنعه من العمل، حتّى الأساقفة. وفي هذا الروح رجاؤنا.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 25 تموز 2010

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share