تزدهر صفحات الأنترنت بتعليقات القراء على الأخبار والمقالات المنشورة فيها. وفي أحيان كثيرة تلفت هذه التعليقات نظر القارئ، ولا سيّما القارئ البحّاثة، أكثر ممّا تلفته المقالات التي تمّ التعليق عليها. فالتعليقات تعبّر عن أحوالنا الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة بشفافيّة وصراحة وصدق ومن دون مواربة أو أقنعة أو قفّازات. أمّا المواضيع التي تستثير الردود أكثر من سواها فهي بلا ريب المواضيع الدينيّة، وإذا صدف أنّ الموضوع لا صلة له بالدين سرعان ما يحوّله القراء إلى مسألة دينيّة تستحقّ الجدال.
هذا هو حال المقال الذي نشرته إحدى الفضائيّات العربيّة على صفحتها الإلكترونيّة عن فتاة عربيّة فلسطينيّة تطوّعت للخدمة في الجيش الإسرائيليّ. وبدلاً من أن تنصبّ التعليقات التي ناهزت حوالى الخمسمائة تعليق، على خيانة هذه الفتاة لأهلها ووطنها وأبناء شعبها، اتّجهت بغالبيّتها صوب ديانتها إذ يشير اسمها بوضوح إلى أنّها مسيحيّة. فانقسم المعلّقون إلى قسمين: القسم الأوّل مال إلى تعميم الخيانة والعمالة على غير المسلمين، أمّا القسم الثاني فذكّر بالمسيحيّين العرب الذين ناضلوا مع المسلمين ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ الذي لم يميّز بعدوانه بين فلسطينيّ مسيحيّ وفلسطينيّ مسلم.
في الواقع طغى الجهل على معظم تعليقات القسم الأوّل، فقد اعتبر أحد المعلّقين أنّ الفتاة المذكورة “مسيحيّة وليست عربيّة”، واعتبر آخر “أنّها مسيحيّة فلا غرابة أنّها تحارب المسلمين. المسيحيّة بالطبع مع اليهوديّة ضدّ المسلمين، لا شيء جديد”، وقال آخر: “لا تلوموها فهي ليست مسلمة بل نصرانيّة. لكنّ اللوم كلّ اللوم على مَن ينادي بالتسامح والعيش جنبًا إلى جنب وبروح الوطنيّة”، وقال آخر: “أنا سعيد جدًّا لأنّها غير مسلمة. وأعتقد أنّه دليل واضح على زيف دعاوى التقريب بين النصارى والمسلمين وموضوع الوحدة الوطنيّة”. وأوغل أحدهم بعيدًا جدًّا حين قال: “ليس لنا علاقة بالدروز والمسيحيّين، فهم أحرار في قرارهم لأنّ حربنا كمسلمين هي ضدّ اليهود، ولا يوجد ما يلزمهم بالوقوف إلى صفّنا”.
يصبح هذا الجهل أكثر خطرًا عندما يسنده أصحابه دينيًّا. فأحدهم، بعد أن لجأ إلى التذكير بأنّ “مَن أراد العزّة بغير الإسلام أذلّه الله”، اعتبر أنّ مشكلتنا الحقيقيّة “أنّنا نبني مبادئنا على الوحدة الوطنيّة وليس على الإسلام”. ولجأ قارئ آخر إلى الآية القرآنيّة القائلة: “يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياءَ بعضهم أولياء بعض”، وأورد آخر الآية “لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم”، ليستنتج “أنّ الكفر أمّةٌ واحدة لا فرق بين النصارى أو اليهود”.
لا ريب في أنّ العديد من الفقهاء ورجال الدين ورجال المؤسّسات الدينيّة من رأس الهرم إلى أسفله مسؤولون عن تردّي الناس إلى هذا المستوى من الهذيان الكلاميّ. فالخطاب الدينيّ المهيمن في الساحة الدينيّة معظمه تقوده الغرائز الدينيّة والمذهبيّة، وتحكمه قسمة العالم إلى فسطاطين أو إلى فريقين. الخطاب الدينيّ بات أقوى من الخطاب الوطنيّ أو القوميّ أو الإنسانيّ. فكيف لمَن يسمع الخطب المثيرة التي تدغدغ العصبيّة الدينيّة أو المذهبيّة أن يفكر بعقله أو بقلبه؟ ونحن لا نميّز بين العقل والقلب.
ثمّ ما الصلة بين انتماء الفتاة الدينيّ وخيانتها لأمّتها؟ أليس الخونة ينتمون إلى ديانات العالم كلّه؟ ولمصلحة مَن القول بأنّ المسيحيّين واليهود أمّة واحدة ضدّ المسلمين؟ ولمصلحة مَن الاعتقاد بالتعارض بين الانتماء الوطنيّ أو القومي، من جهة، وبين الانتماء الدينيّ، من جهة أخرى؟ أليس الخطاب الدينيّ هو الذي يروّج لهذه الأقوال والإيديولوجيّات؟ أليس الخطاب الدينيّ هو الذي يقسّم الناس إلى مؤمنين وكفّار؟ أليس هو مَن يزرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد؟
غير أنّ بعض التعليقات المستنيرة قد أفرحتنا لأنّها مبنيّة على المعلومات وعلى الوقائع. لكن يبدو أنّ الغوغائيّة هي المستحكمة اليوم في عقول شعوبنا. فلا يجوز إنكار تاريخ عريق للمسيحيّة العربيّة في الشراكة مع المسلمين بسبب خيانة قامت بها فتاة عاقّة. لسنا نلوم الجاهل على جهله، بل اللوم كلّه يقع على مَن جعل الجاهل جاهلاً وما زال يسهم في تعميم هذا الجهل.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 1 آب 2010