عبّرت هيام القصيفي في مقالتها “المطاوعة في وسط بيروت” (النهار، 25 آب 2010) عن واقع أليم بدأ يدخل كالنعاس في بلدنا. فقد روت باستهجان حادثة جرت معها في أحد الفنادق الحديثة في وسط بيروت حيث اعتذر منها النادل عن عدم تقديم النبيذ على المائدة بسبب شهر رمضان. وختمت مقالتها بالتساؤل الذي يحمل في الوقت عينه الجواب: “هل وصلت الشرطة الدينيّة إلى لبنان وإلى قلب الوسط التجاريّ واجهة لبنان الحضاريّ وبدأت ترتدي بذلة أجنبيّة وربطة عنق؟”
تأتي هذه الحادثة بعد حادثة اعتراض عدد من رجال الدين المسيحيّين على عرض مسلسل “السيّد المسيح” وتراجع المحطّتين اللتين كانتا تنويان عرض المسلسل عن عرضه تلافيًا لفتنة طائفيّة. ولسنا نربط بين الحادثتين إلاّ لنؤكّد على ظاهرة واحدة تعمّ الديانات والمذاهب والطوائف كافّة، وهي تنامي التشدّد الدينيّ وعدم احترام الآخر في إيمانه ومعتقداته وتقاليده، يضاف إليها عدم احترام الحرّيّة الشخصيّة لكلّ فرد من أفراد المجتمع في أن يختار لنفسه النمط الحياتيّ الذي يناسب عقله وقلبه وقناعاته الذاتيّة.
ثمّة مقولة شائعة تقول “إنّ حرّيّتي تقف عندما تبدأ حرّيّة سواي”. لكنّ السائد في حالنا هو عكس ذلك تمامًا، فلسان حال المتديّنين المتشدّدين يقول إنّ حرّيّتي لا تقوم إلاّ على إبطال حرّيّة سواي. فلمَ يريد المتديّن من الناس أن تشاركه في شعائره أو في معتقداته إن كانوا لا يرغبون بذلك؟ ولماذا يريد إكراه الناس على سلوك لا يرتضونه لأنفسهم، والقرآن نفسه يقرّر أن “لا إكراه في الدين”؟ ولماذا يريد من الناس أن تنافق خوفًا منه أو مجاملةً له، و”الله لا يحبّ المنافقين”؟
المشكلة تتفاقم حين يكون المجتمع متنوّعًا دينيًّا وثقافيًّا. فإن أخذنا مثال الخمر الذي هو حلال لدى المسيحيّين إلاّ إذا بولغ بمعاقرته إلى حدّ الثمالة، وهو حرام لدى المسلمين، فبماذا يؤذي دينيًّا الخمر المقدّم على إحدى الموائد الجالسين إلى مائدة أخرى؟ ألا يتوجّب على المتديّن احترام المخالف لمعتقداته، طالما هو لا يؤذيه ولا يعطّل فرائضه، بدلاً من أن يفرض عليه السلوك بما يوافق رأيه؟ لماذا يطلب من الآخر احترامه فيما هو نفسه لا يحترم قناعات الآخرين؟ لماذا يطلب من الآخرين ما لا يلزم نفسه به أوّلاً؟ ثمّ ما هو شأن هذا المتديّن في انقطاع بعض المنتمين بالولادة إلى الدين ذاته عن ممارسة الشعائر والفرائض؟ ويبقى السؤال: على مَن يتوجّب الاحترام؟ نقول وبلا تردّد إنّ على المتديّنين أن يبادروا بالاحترام، هم أولى بأن يظهروا للعالم بأنّهم أحرار في خياراتهم، وتاليًا يحترمون حرّيّة الآخرين.
كيف يريدنا المتشدّدون دينيًّا أن نصدّقهم حين يطالبون بحرّيّة ارتداء النقاب أو الحجاب، أو بناء المآذن أو المساجد في هذا البلد أو ذاك، علمًا أنّها بلاد لا تحكمها شريعة مسيحيّة بل علمانيّة وضعيّة، فيما هم يمنعون على الناس أن يأكلوا أو يشربوا جهارًا في ساعات الصوم، أو أن يبنوا الكنائس أو حتّى أن يرمّموها في بعض البلدان؟ الحرّيّة في هذا المقام استنسابيّة نفعيّة، ومَن يطالب بالحرّيّة غير ممارس لها بدءًا يكون هو نفسه عادم الحرّيّة وعبدًا لذاته وأصنامه لا عبدًا لله.
حاربت الأنظمة الشموليّة الحاكمة إبّان القرن المنصرم الحرّيّات على أنواعها، وانتصرت الحرّيّات في خاتمة المطاف، ولا سيّما الحرّيّات الدينيّة. غير أنّ الوضع اليوم بات على النقيض ممّا كانه سابقًا، حيث أمسى التحرّر من وطأة التشدّد الدينيّ هو الغاية والهدف لدى العديد من الناس. أمّا في بلادنا فيحلّ التشدّد الدينيّ مكان الأنظمة الشموليّة بحيث صارت الحاجة ماسّة ليس إلى تأمين الحرّيّات الدينيّة، بل إلى تأمين حرّيّة غير المتديّنين أو المخالفين في الدين.
ليس العيش المشترك تنازلاً عن الحرّيّة الشخصيّة في هذا الميدان أو ذاك، وليس العيش المشترك نفاقًا مبطّنًا وخطابًا خشبيًّا يخفي نزعة إلى الاستعلاء والاستكبار، وليس العيش المشترك تسامحًا يمنّ به القويّ على الضعيف أو الغالبيّة على الأقلّيّة. العيش المشترك إمّا أن يكون قبولاً أصيلاً بالشريك كما هو يرغب أن يكون منسجمًا مع ذاته، وإلاّ هو نفاق عميم.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،29 آب 2010