يتضمّن كتاب المطران جورج خضر “اذكروا كلامي، رؤى في الرعاية” (تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع) مجموعة مقالات وعظات شفويّة قيلت في مناسبات رسامة أساقفة وكهنة وشمامسة على مدى أربعين عامًا. وتكمن أهمّيّة هذا الكتاب في كونه يشتمل على لاهوت كامل في أصول الرعاية ومهمّة الرعاة ورسالتهم في خدمة أبناء الرعية، وفي كونه أيضًا يذكّر الكاهن بعدم التقاعس في أداء وظيفته على أحسن وجه.
حين يتوجّه المطران خضر في إحدى عظاته إلى الكاهن أو الشمّاس المرسوم حديثًا إنّما يتوجّه إليه بالرجاء إلى ما سيكونه لا إلى ما كانه. فالماضي مليء بالخطايا، وتاريخنا تاريخ خطايا. أمّا الرجاء ففي الغد الآتي. لذلك يقدّم خضر في عظاته رؤى ملؤها الرجاء. فهو يرى إلى بعض مواهب الكاهن الجديد أو بعض فضائله، ويحثّه على القضاء على نواقصه الكثيرة. وهو حين يقول ما يقوله إنّما يريد من الماثل أمامه أن يصبح على هذه الصورة المبتغاة. من هنا، ليست الرتبة الكهنوتيّة عنده سوى صيرورة: “إنّك تصير شمّاسًا ولست شمّاسًا، تصير في كلّ يوم”. بهذا المعنى، الخدمة الكهنوتيّة يستحقّها الكاهن عبر الجهاد المستمرّ والسعي اليوميّ، وليست هي أبدًا معطى دائمًا أو ثابتًا بحدّ نفسها.
نبرة جورج خضر في عظاته المجموعة تذكّر القارئ بنبرة إشعياء النبيّ ويوحنّا المعمدان “الصوت الصارخ في البرّيّة”. فخضر لا يحابي الوجوه، إذ يريد الكاهن بلا عيب ولا شوائب، يريده أن يرتقي إلى مثال المسيح المعلّم الصالح والكاهن الوحيد. لذلك يقول مستندًا إلى ما قاله أو فعله المسيح نفسه: “نحن معشر الكهنة لسنا سوى غاسلي أرجل”، و”ليس العبد أفضل من سيّده”، و”أن تخدم هو أن تجعل الآخر ملكًا عليك”. الكهنوت، وفق خضر، ليس سلطة علويّة ولا تسلّطًا، بل هو خدمة وتواضع وإخلاء للذات.
يتابع المطران خضر تنبيه الكهنة إلى الخدمة الفضلى ووضعهم أمام مسؤوليّاتهم التي إذا لم يؤدّوها كما يراد لها أن تؤدّى ستؤول بهم إلى دينونة مهولة. فيقول: “لن تخلص ما لم تخلّصهم”، “لا جمع بين المسيح وعشق الذات”، “بع راحتك لأجل المسيح”، “حذارِ أن ترى نفسك ترتقي”، “كلّ عيب في الإكليريكيّ يدمّر كنيسة الربّ”، “مجدك أن تموت”، “وظيفتك أن تموت من أجلهم جميعًا”، “كمّل النقص الذي فيك”، “لا تستطيع أن تنام وربّك يصلبه المسيحيّون”. على الرغم من كون هذا الكلام يحذّر من الدينونة، إلاّ أنّه مليء بالرجاء إذ هو دعوة إلى القداسة. لا يرضى المطران خضر بأقلّ من القداسة هدفًا يسعى إليه مَن توجَّه إليه هذه العبارات.
يخشى المطران كثيرًا من أمر كثيرًا ما يقع فيه الأساقفة والكهنة حين يعتلون منابر الوعظ، وهو الالتباس الحاصل لدى السامعين بين ما هو حقًّا كلمة الله وما هو نابع من استعمال لهذه الكلمة في غير موضعها لغايات في نفوس الواعظين. فيقول: “حذارِ أن تخلط شهواتك بكلمة الله”، و”أنت أسير الإنجيل”، لذلك لا يستطيع الواعظ أن يستغلّ موقعه ليروّج لأفكار ليست هي أفكار الله، بل عليه أن ينفع السامعين بكلمة الله وحدها، أن يفسّر الإنجيل على ضوء الواقع الراهن للرعيّة والمشاكل التي يواجهها أبناؤها.
لذلك، يوصي المطران خضر الكاهن قائلاً: “لا تسمع لأحد غيره (غير المسيح)”، و”لا تحنِ رأسك إلاّ للمسيح”، “انت موظّف عند ربّك”. من هنا، المطلوب من الكاهن أن يكون “أيقونة” حيّة، أيقونة من لحم ودم، لا من خشب؛ أن يكون “قدوة” في رعيّته حتّى تصدّق الناس أقواله. والشرط الوحيد ليبلغ الكاهن إلى هذا المستوى من الخدمة المثلى إنّما هو المحبّة، “أحبب تُطع” يقول المطران خضر، فالطاعة ليست للموقع ولا للوظيفة بل للشخص المحبّ على مثال المسيح الذي أحبّ مجّانًا.
في المقابل لا يغفل المطران خضر دور الرعيّة في رعاية الكاهن، فالرعاية ينبغي لها أن تكون متبادلة، فيقول خضر: “كلّنا تحت الغربال يا إخوة، ولذلك لا تحصوا على الكاهن خطاياه لأنّها إذ ذاك تحصى عليكم وتموتون. راعوه يرعَكم. الكاهن راعٍ ومرعي، هذه قاعدة الحبّ”. لم يشأ المطران خضر، عبر عظاته كلّها، إلاّ أن يرى كنيسة الربّ تشع بهاءً بأبنائها كافّة، كلّ واحد منهم بحسب الموهبة المعطاة له. أراد أن يرى ملكوت السموات حاضرًا قبل اليوم الأخير في كنيسته المجاهدة على الأرض.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،5 أيلول 2010