الصليب موضوعًا جداليًّا

الأب جورج مسّوح Sunday September 12, 2010 167

تقوم المسيحيّة على الإيمان بقيامة المسيح من بين الأموات بعد صلبه. ومَن ينكر الصليب أو القيامة يُخرج نفسه من المسيحيّة. لذلك اعتُمد الصليب شعارًا ورمزًا للمسيحيّة. في المقابل، ينكر الإسلام، بناءً على القرآن، مسألة صلب المسيح ويتبنّى رأيًا شاع في أوساط بعض الشيع المسيحيّة الناشئة فحواه أنّ المسيح لم يُصلب لكن شبّه لليهود أنّهم صلبوه. هذان الاعتقادان، المسيحيّ والإسلاميّ، لن يتبدّلا إلى قيام الساعة، ولن ينفع الجدل بين الطرفين في تبديل وجهات النظر أو في التقريب بينهما.

“إنجيل برنابا” لن يغيّر في قناعات المسيحيّين المؤمنين بحقيقة الصليب، ولا سيّما بعد إجماع المختصّين على القول بأنّ هذا المسمّى “إنجيل برنابا” قد دوّن في الفترة الواقعة بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، أي بعد قرون عديدة من نشأة الإسلام، وأنّ هذا الكتاب لا يمتّ بصلة إلى الكتب المنحولة التي ظهرت في القرنين الأوّلين للمسيحيّة. لذلك، يبدو مستغربًا لجوء بعض المسلمين إلى هذا الإنجيل المزوّر من أجل دعم اعتقادهم بعدم صلب المسيح، فيما يحفل تاريخ الأدب المسيحيّ المنحول بروايات قديمة تشابه الرواية القرآنيّة. ومن المعلوم أيضًا أنّ “إنجيل برنابا” يناقض بعض أسس الإيمان الإسلاميّ، إذ يقول عن “النبيّ محمّد” أنّه المسيح المنتظر، ممّا يخالف الرؤية الإسلاميّة لنبيّ الإسلام.

ظهرت في القرن الأوّل للمسيحيّة بعض الفرق الغنوصيّة التي كانت تعتبر أنّ عالم المادّة والجسد عالم فاسد، لذلك رفضت الإيمان بأنّ المسيح كان له جسد حقيقيّ، بل “شبه جسد”. ومن أهمّ تلك الفرق فرقة “الدوكاتيّة”، أو “المشبّهة”، التي تصدّى لها القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ (+107) مؤكّدًا حقيقة التجسّد بقوله: “إنْ لم يكن ليسوع سوى جسد ظاهريّ، فهو لم يتألّم إلاّ ظاهريًّا، ونحن لم نحصل على الفداء إلاّ في الظاهر”.

كذلك يحارب القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+202) بدعة باسيليدس الذي كان يقول بأنّ المسيح لم يُصلب، بل سمعان القيروانيّ الذي حمل صليب المسيح على درب الجلجلة هو مَن صُلب مكانه. فباسيليدس يقول: “وسمعان هو الذي صُلب جهلاً وخطأ، بعد أن تغيّرت هيأته فصار شبيهًا بيسوع، بينما تحوّل يسوع إلى هيئة سمعان وأخذ يسخر من الرؤساء”. أمّا كتاب “أعمال يوحنّا” (نهاية القرن الثاني) المنحول فينسب إلى المسيح قوله: “لستُ ذاك الذي عُلّق على الصليب”.

وثمّة فرقة “الكيرنثيّون” من أتباع كيرنثوس الذين كانوا يعتقدون بوجود شخصين في يسوع المسيح: الشخص الأوّل اسمه يسوع، وهو الذي وُلد من يوسف ومريم كسائر البشر وقد تألّم ومات وقام من بين الأموات؛ أمّا الشخص الثاني فاسمه المسيح، وهو كائن روحيّ غير قابل للآلام، لذلك تخلّى المسيح عن يسوع في ساعة الصلب وصعد إلى السماء، هكذا يكون يسوع قد  صُلب وحده، فيما نجا المسيح من العذاب.

في المقابل، يتناول القرآن مسألة صلب المسيح في آية واحدة (النساء، 157) حيث يؤكّد أنّ اليهود لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه ولكن شبّه لهم ذلك، وفي الآية ذاتها يتحدّث عن رفعه إلى السماء. ولا يقدّم القرآن معلومات ولا تفاصيل عن هذه الحادثة، تاركًا الباب مفتوحًا أمام قراءتين: إمّا أن يكون اليهود قد صلبوا شخصًا آخر ألقي عليه شبه المسيح، أو أن تكون حادثة الصلب برمّتها قد شبّهت لهم. لذلك تتعدّد الروايات الإسلاميّة وتختلف في شأن مصير المسيح في الفترة الواقعة ما بين نجاته من الصلب ورفعه إلى السماء، وفي شأن عودته الثانية.

أمّا في شأن مَن حلّ مكان المسيح على الصليب، فتختلف الأسماء باختلاف الرواة. في هذا السياق يورد الرازي في تفسيره خمس روايات عن هذا الشخص الذي شبّه لهم أنّه المسيح: 1- “أخذوا إنسانًا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنّه المسيح”؛ 2- “طيطايوس” أحد أصحاب يهوذا؛ 3- “وكّلوا بعيسى رجلاً يحرسه، فألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لستُ بعيسى”؛ 4- “إنّ اليهود لـمّا همّوا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم: مَن يشتري الجنّة بأن يُلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم: أنا. فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقُتل”؛ 5- رجل من أصحاب عيسى كان منافقًا “ألقى الله تعالى شبع عيسى عليه فقُتل وصُلب”. ويعترف الرازي بأنّ “هذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور”.

على الرغم من البدع والشيع التي أنكرت صلب المسيح بقيت المسيحيّة متمسّكة بالصليب عقيدة أساسيّة للخلاص. وعلى الرغم من تعدّد الروايات الإسلاميّة في شأن خاتمة حياة المسيح على الأرض، بقي الاعتقاد الإسلاميّ راسخًا بعدم صلب المسيح. لكنّ ذلك كلّه لن يمنع المسيحيّين والمسلمين من العمل معًا من أجل خير الإنسان وإعمار الأرض.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 12أيلول 2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share