وفاء، كاميليا، ماريان… أسماء يتداولها الإعلام المصريّ والعربيّ والعالميّ. هي أسماء سيّدات، بعضهن زوجات كهنة، شاع أنّهن اعتنقن الإسلام بعد تركهن المسيحيّة. وتتضارب الروايات ما بين القائلين بأنّ أولئك السيّدات اخترن الإسلام بكامل حرّيّتهن، والقائلين بأنهنّ أرغمن على اعتناق الإسلام بعد خطفهنّ وإجبارهنّ على ترك ديانتهنّ الأصليّة. وتسلّح الفريقان بأفلام فيديو تدعم رأي كلّ منهما، فيما يؤكّد كلّ فريق من الفريقين بأنّ بعض أفلام الفيديو قد صوّرها الفريق الآخر تحت الضغط والترهيب.
قضيّة أولئك السيّدات باتت تنذر بفتنة لن تبقي ولن تذر، فالمظاهرات والاعتصامات المتقابلة التي حرّكها شحن النفوس وإيقاظ العصبيّات الدينيّة عمّت في الكنائس والمساجد. أمّا الدولة المصريّة فيتّهمها البعض بالانحياز من حيث أنّها اعتقلت بعض أولئك السيّدات وسلّمتهن إلى الكنيسة التي حجبتهنّ عن الأنظار، أو أنّها قصّرت في البحث والعثور عليهنّ. وذهب البعض إلى حدّ القول بأنّ الكنيسة احتجزتهنّ في الأديار ومنعت أيّ احتكاك بهنّ وأرغمتهنّ على العودة إلى المسيحيّة.
في هذا السياق، يؤكّد مفتي مصر الدكتور علي جمعة في إشارة إلى مزاعم احتجاز الكنيسة القبطيّة كاميليا شحاته زاخر زوجة الكاهن تدّاوس سمعان راعي كنيسة مار جرجس في دير مواس بالمنيا بعدما أشهرت إسلامها، إنّه لا يجوز لأيّ جهة أن تحتجز مَن يُشهر إسلامه. وقال المفتي جمعة إنّه “إذا أسلم شخص فلا يجوز لأحد أن يجبره على ترك الإسلام، وإذا أراد الشخص الذي دخل الإسلام العودة إلى ديانته الأولى فلا يجب أن يمنعه أحد أيضًا”.
لا يسعنا إلاّ أن نلاقي بإيجابيّة كلام المفتي جمعة من حيث حرّيّة الإنسان باعتناق العقيدة التي يقتنع بها نهجًا لحياته في الدنيا وفي الآخرة، وبخاصّة أنّه دعا إلى مناقشة القضيّة “بموضوعيّة ومن دون إثارة”، ورافضًا في الوقت عينه “أن تتمّ هذه الإثارة على أرض مصر بهذه الصورة الغبيّة”. ويزداد تأييدنا للمفتي في حال صحّت الروايات القائلة بأنّ كاميليا التي ظهرت على بعض مواقع الإنترنت مرتدية الحجاب توجّهت إلى الأزهر لإشهار إسلامها برفقة أحد الشيوخ فتمّ إلقاء القبض عليها وتسليمها إلى الكنيسة حيث توارت عن الأنظار.
مع تأكيدنا على حرّيّة الاعتقاد لكلّ شخص مولود من امرأة على وجه البسيطة، نتساءل عن مدى احترام هذه الحرّيّة في مجتمعاتنا العربيّة. فالمفتي نفسه يتابع حديثه مؤكّدًا أنّ “الإسلام أباح حرّيّة العقيدة”، وذلك بالاستناد إلى الآيتين القرآنيّتين: “مَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر”، “ولا إكراه في الدين”، وأنّ مَن يكفر حسابه عند الله يوم القيامة. وقد أشار إلى عدم وجود نصّ أو آية في القرآن “تدعو إلى إرغام الإنسان على اعتناق عقيدة معيّنة”. فإذا كانت “مصر دولة إسلاميّة بنصّ الدستور”، وفق كلام المفتي جمعة، والإسلام لا يرغم أحدًا على اعتناق عقيدة معيّنة، فلماذا يُسمح لقسم من المصريّين، هم غير المسلمين، بتغيير انتمائهم الدينيّ، فيما يُمنع ذلك على المسلمين؟
طبعًا نحن لا ننتظر جوابًا على هذا السؤال، فالجواب معروف ومكرّر إلى حدّ الملل. ولسنا هنا لندعو إلى تغيير بعض أحكام الفقه الإسلاميّ، وإن كنّا نرجو ظهور مجتهدين كبار يعملون على استنباط أحكام تواكب العصر وتحدّياته. واقع الحال، إذًا، يشير إلى أنّ ثمّة تعارضًا ما بين النصّ المكتوب وممارسته على الأرض. فإذا كان كلام المفتي يغاير الواقع القانونيّ المصريّ، وسواه من قوانين الدول العربيّة والإسلاميّة، الذي يحظّر على المسلمين تغيير دينهم، فلماذا لا يطالب باسم الإسلام بتعديل هذه القوانين بحيث تسمح لكلّ مَن شاء من المصريّين بحرّيّة التحوّل الدينيّ؟
ليست المسألة تقتصر على فشل قيام الدولة المدنيّة في البلاد العربيّة، حيث المواطنة هي القاعدة التي تقوم عليها القوانين، وحيث المساواة الحقيقيّة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”، وفق القول الشهير. المسألة هي أولاً في تقاعس المؤسّسات الدينيّة في الإسهام، عبر الوعظ والتعليم، في ترقّي المنتمين إليها إلى مستوى الوعي الراسخ الذي لا يتزعزع بأنّ الحرّية الشخصيّة، وفق النصوص التأسيسيّة، هي مقدّسة ولا تحتمل الالتباس. ولن تتقدّم مجتمعاتنا إن لم يتمّ العمل على نشر الوعي الدينيّ في مختلف شرائحها. خلاف ذلك يعني أنّ بلادنا ستظلّ تشهد من حين إلى آخر وفاءات وكاميليات وماريانات أخرى، وربّما فتنًا أشدّ ضراوة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 19أيلول 2010