ميلاد سيدتنا والدة الاله الفائقة القداسة

mjoa Friday October 1, 2010 312

كل واحد منا يحب يوم مولده ويكرمه لأنه يذكرنا بحكمة الله التي لا تدرك ، وبقوته التي استدعانا بها من العدم إلى الوجود ويحثنا على العمل بلا ملل حتى نهاية حياتنا الأرضية .

 

 يصادف 8 أيلول عيد مولد العذراء مريم والدة الإله  ( يقال لهذا العيد في بلادنا عيد صيدنايا) وذلك نسبة إلى دير صيدنايا قرب دمشق الذي بني في القرن السادس على اسم “ميلاد والدة الإله” التي هي ارفع من كل الخلائق والتي يليق بها كل تمجيد وإكرام لقداسة ميلادها .

لم تتعود الكنيسة أن تقيم أعياداً للقديسين يوم ميلادهم، لأن البشر في يوم ميلادهم لا يزالون ملطخين بالخطيئة، لذلك تقيم لهم الأعياد يوم انتقالهم إلى الأخدار السماوية. ثلاثة فقط يحتفل بميلادهم وهم السيد المسيح ووالدته وسابقه  يوحنا المعمدان لان في ولادتهم تدخل مباشرة من قبل الله من خلال ملائكته .

بالنسبة للعذراء تقيم لها الكنيسة أكثر من عيد وذلك للدور الكبير الذي قامت به في تاريخ خلاص البشر.

عيد ميلاد السيدة هو أول الأعياد السيدية والوالدية في الروزنامة الطقسية ورقادها هو العيد الأخير، وذلك لأن تحقيق خلاص الله الموعود للبشر أجمعين يبتدئ مع مولد مريم. مع ميلاد مريم تبتدئ رحلة عودتنا إلى الملكوت. ومع رقادها وانتقالها إلى السماء نتذوق ما سيحل بكل من يكون متكلاً على الرب وطائعاً كما كانت مريم، أي سيكون من أبناء الملكوت.

تاريخية العيد : 

يعود أصل العيد إلى أواسط القرن الخامس في أورشليم حين تم تكريس كنيسة على اسم والدة الإله مريم قرب البركة الغنمية أو بركة بيت حسدا. يقول التقليد أن بيت القديسة حنة والدة مريم كان يقع بالقرب من هذه الكنيسة.

من أورشليم انتقل الاحتفال بعيد ميلاد العذراء في القرن السادس إلى القسطنطينية حيث وضع القديس رومانوس المرنم الترانيم الخاصة بالعيد وما زلنا نصلي بعضها. من الشرق انتقل العيد إلى الغرب في عهد البابا سيرجيوس الأول (687-701 ) الأنطاكي الأصل.

لا يذكر العهد الجديد شيئاً عن طفولة مريم ولا عن مولدها أو رقادها، ذلك أنّ هدف الأناجيل هو التعريف بسيرة الربّ يسوع الخلاصيـّة وبـأعماله وتعاليمه. لكن التقليد الكنسي الذي حفظ مكانة خاصة لمريم يذكر أن ولادتها تمت بتدخل إلهي مباشر كما حصل مع عدد من الأشخاص المميزين في العهد القديم كإسحق ابن إبراهيم وشمشون وصموئيل ويوحنا المعمدان. كل ذلك ضمن سر التدبير الخلاصي. أما المصادر التي تستند إليها الروايات الكنسيّة والنصوص العباديّة في شأن ميلاد السيّدة فهي الأناجيل المنحولة (المنسوبة إلى غيـر مؤلّفيها). 

فقد ورد في “إنجيل يعقوب التمهيديّ” أنّ يواكيم، والد مريم، وهو من سبط يهوذا من نسل الملك والنبي داود، فأبوه هو فاربافير من سلالة ناثان بن داود لقد كان غنيًّا جدًّا ويقدّم لله قرابين مضاعفة قائلاً في قلبه: “لتكن خيراتي للشعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليشفق الربّ عليّ”. وكانت امرأته حنّة ابنة كاهن متان من قبيلة هارون وكان لها أختان هما مريم وصوفيا، وقد تزوجت مريم في بيت لحم وولدت صالومي، وتزوجت صوفيا في بيت لحم أيضاً وولدت أليصابات أم النبي يوحنا المعمدان . حنة كانت عاقرًا وتعاني من ذلك حزنًا وألمًا كبيرين، لأن العقر يعتبر عاراً فالولادة تعني تأمين النسل وبالتالي إفساح المجال أمام ولادة المسيح المنتظر من شعب العهد القديم. فابتهلت حنة إلى الربّ قائلة: “يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركتَ أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابنًا”. فإذا بملاك الربّ يقول لها: “يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ويكون نسلك مشهورًا في العالم بأسره”. فأجابت حنّة قائلة: “ليحيَ الربّ إلهي؛ سواء كان صبيًّا أم بنتًا ما ألده، فسوف أقدّمه للربّ، وسوف يكرّس حياته للخدمة الإلهيّة”. وحبلت حنّة، وفي الشهر التاسع ولدت بنتًا، فسمّتها مريم وشكرت الله قائلة: “نفسي ابتهجت هذه الساعة”.


 

هذه الرواية المنحولة نجد آثارًا مطابقة لها في الرواية القرآنيّة عن بشارة حنّة ومولد مريم، المرأة الوحيدة في القرآن المذكورة باسمها. فسورة “آل عمران” تستفيض في رواية مولد مريم، ثمّ يحيى (يوحنّا المعمدان)، ثمّ المسيح عيسى (يسوع) بن مريم. أمّا في ما يختصّ بمريم فنقرأ أنّ امرأة عمران ناجت إلهها قائلةً: “ربِّ، إنّي نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا فتقبَّلْ منّي أنت السميع العليم” (آل عمران، 35). ولا بدّ هنا من التوضيح بأنّ عمران القرآنيّ هو يواكيم والد مريم، علمًا أنّ القرآن يجعل مريم اختًا لموسى وهارون. ولمّا ولدت امرأة عمران ابنةً لا ابنًا قالت: “ربِّ، إنّي وضعتُها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى، وإنّي سمّيتُها مريم، وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم” (آل عمران، 36). وفي الأحاديث النبويّة الصحيحة ورد في “صحيح البخاري” أنّ محمّدًا قال: “ما من مولود يولد إلاّ والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخًا من مسّ الشيطان إيّاه إلاّ مريم وابنها”. التراث الإسلاميّ ينزّه يسوع ومريم على خلاف كلّ أبناء البشر من أيّ مسّ للشيطان منذ مولدهما.

ثمّ يتابع القرآن روايته عن مولد مريم قائلاً: “فتقبّلها ربّها بقبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنًا، وكفّلها زكريّا، كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقًا قال: يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، إنّ الله يـرزق مَن يشاء بغير حساب” (آل عمران، 37). هنا تـورد الآية القرآنيّة معجزة تمّت مع مريم كانت بموجبها تتلقّى من ملاك الربّ طعامًا وفاكهة من غير فواكه الموسم المعتاد، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف! ويضيف المفسّر القرآنيّ معلّقًا على هذا الأمر: “إنّ الله يرزق منَ يشاء من عباده بغير إحصاء ولا حدود”. كما يتحدّث التراث الإسلاميّ عن كفالة زكريّا لمريم قائمًا على مصالحها وجاعلاً منه زوج خالتها.

بيد أنّ الكنيسة، وعلى الرغم من هاتين الروايتين المتقاربتين الواردتين في إنجيل يعقوب التمهيديّ وفي القرآن، شاءت أن تضيء عبر تعييدها لميلاد مريم على عمل الربّ يسوع من أجل خلاص العالم، وليس على المعجزات المرافقة لميلادها.

 تجدر الإشارة هنا أنه لم ترد أي إشارة في الأدب الابوكريفي وأيضا في مؤلفات القديسين كما في التقليد الكنسي وصلوات العيد إلى ” الحبل بلا دنس ” الذي حددته الكنيسة اللاتينية من أمور العقائدية سنة ( 1868 )  ، إذ يقول صاحب الغبطة اغناطيوس الرابع ( هزيم ) :

” … العذراء شخص إنسان مثلي أبوها آدم وأمها حواء مثلي ، العذراء تشاركيني طبيعتي في ملئها . فقد ولدت مثلي وكبرت مثلي ولكنها لم تفعل الشر كما افعل .. وإذا كان المسيح قد اخذ منها جسدا فلانها واياي واحد إذا المسيح اخذ جسدي ليرفعه ويقدسه … لكنها مثلي تخلصت بالمسيح ابنها لا قبل حبلها به ولكن مع الحبل تماما . ” ( مجلة النور 1954 العدد 5 ) .


 

 ليتورجية العيد :

تعطي التراتيل والصلوات فكرة واضحة عن هذا العيد حيث تتكشف أهمية هذا العيد لمن يتأمل القراءات التي تقرأها الكنيسة بهذه المناسبة والتي تشير إلى تدبير الله الخلاصي أي بدء خلاص جنس البشري .

القراءة الأولى : تشير أو ترمز إلى دور البتول في سر الفداء إذ تتحدث عن الليلة التي قضاها يعقوب في لوز ورؤية السلم المنتصب على الأرض ورأسه مرتفع إلى السماء هذا السلم يشير إلى العذراء ، سلم سري بين الأرض والسماء وبيت الله الحقيقي .( تكوين 28)

القراءة الثانية : تتحدث عن طريق باب المقدس المغلق : ” ورجع بي إلى الطريق باب المقدس الخارجي المتجه نحو الشرق وكان مغلقا فقال لي الرب : أن هذا الباب يكون مغلقا لا يفتح ولا يدخل منه لان الرب .. قد دخل منه فيكون مغلقا ” ( حزقيال 44: 1 –2 ) تشير هذه القراءة بحسب تفسير الكنيسة إلى بتولية مريم الدائمة وأمومتها المعجزة البيان .

القراءة الثالثة : تتحدث عن : ” الحكمة بنت بيتها ونحت أعمدتها السبعة وذبحت ذبائحها ومزجت خمرها وهيأت مائدتها وارسلت جواريها تنادي على متون مشارف المدينة ” ( امثال 9 –1 ) يشير هذا النص إلى العذراء مريم بحسب تفسير الكنيسة ، البيت الذي بناه الله الحكمة الفائقة ورسولة العلي المرسلة إلى البشر لتدعوهم إلى مائدة الرب .

تشير التراتيل إلى أن ميلاد مريم هو مصدر فرح وتهليل لكل الخليقة. مريم ولدت من يواكيم وحنة, بنعمة الله, لكنها تخص العالم كله,لأنها هي التي ولدت المسيح الاله, مخلص العالم. مريم هي غاية تاريخ الخلاص وتمامه, ومآل تاريخ الحب والطاعة, واكتمال تاريخ الاستجابة والرجاء. لهذا السبب, نجد الخدمة الليتورجية, في هذا اليوم, مشبعة بالتهليل والفرح والحبور.” هذا هو يوم الرب فتهللوا يا شعوب….”.” اليوم ظهرت بشائر الفرح لكل العالم…”. ” اليوم حدث ابتداء خلاصنا يا شعوب…”.”… لتتزين الأرضيات بأفخر زينة, ولترقصن الملوك طربا, لتسرن الكهنة بالبركات, وليعيدن العالم بأسره, فها إن الملكة عروس الآب البريئة من العيب قد نبتت من جذر يسى, فلن تلد النساء أولادهن , بعد, بالأحزان, فان الفرح قد أزهر, وحياة الناس عادت تسري في العالم…”.


 

لاهوتية العيد : 

اذا كانت عطية الله, مريم, تخص الخليقة بأسرها , فان يواكيم وحنة هما صورة هذه الخليقة التي ما لبثت مقيمة في العقر منذ ان سقط آدم وحواء في المعصية. في المزمور 13 هذه الأقوال التي تعبر عن حال البشرية قبل ورود المسيح:”… ليس من يعمل صلاحا, حتى ولا واحد. أطل الرب من السماء على بني البشر ليرى هل من فاهم أو طالب لله. ضلوا كلهم جميعا وتدنسوا. ليس من يعمل صلاحا. كلا ولا واحد”. (مزمور1:13 – 3). طبعا, كان هناك صديقون أرضوا الله من قريب أو بعيد, ولكن, وحده الرب يسوع المسيح كان على قلب الآب السماوي, وأرضي الله إرضاء كاملاً غير منقوص. لهذا السبب , كان الرب يسوع الوحيد الذي قال عنه الآب السماوي:” هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت, له اسمعوا”(متى 5:17). العالم, اذاً, كان عاقرا عقيما كيواكيم وحنة. لذلك تقول إحدى ترانيم صلاة السحر:” يا للعجب الباهر, فان الثمرة التي برزت من العاقر بإشارة خالق الكل وضابطهم قد أزالت عقم العالم من الصالحات بشدة بأس….”
وكما أن يواكيم وحنة هما صورة العالم العقيم, كذلك مريم صورة العالم الجديد المخصب, صورة الكنيسة. كلاهما نعمة من عند الله . فنحن نتحدث , بصورة تلقائية, عن انحلال عقر يواكيم وحنة وانحلال عقر طبيعتنا باعتبارهما شأنا واحدا, كما نتحدث عن ولادة مريم ” التي بها تألهنا, ومن الموت نجونا” وكأن الامرين واحد.

أن ولادة مريم هو مصدر فرح وسرور للجنس البشري لأنها هي التي ولدت المسيح الإله مخلص العالم .

فسرونا بولادة مريم هو سرور وفرح بالرب يسوع وتهليل له . لا قيمة لمريم في ذاتها فقط كما أن البشرية كلها لا قيمة لها في ذاتها فقط. المسيح هو الذي جعل مريم أم الحياة ، أم النور، كما يجعل الكنيسة ينبوع الحياة. هذا الأمر كثيرا ما ننساه فنتعامل مع مريم وكأنها قائمة في ذاتها مجردة عن دور الله في حياتها. الكنيسة تسمي مريم والدة الإله في كل التراتيل والأناشيد  الكنسّية ، لا تذكر مريم إلا مقرونة بابنها يسوع المسيح المخلص .

كل الخليقة تحيا إذا ما أضحت مسكنا للمسيح , على غرار سكنى الرب يسوع في أحشاء مريم. كما أن كل الخليقة تزهو وتتمجد إذا ما كانت أيقونة للمسيح وشاهدة للمسيح.

احتفال الكنيسة بحياة مريم والدة الإله هو احتفال بسيّدة وهبت حياتها كاملةً لربّها ومخلّصها يسوع المسيح. هو احتفال بتكريس مريم ذاتَها لعبادة الله والخضوع لمشيئته في كلّ أمر قامت به.

فلنجمّل أنفسنا بالكلمة الإلهيّة في كلّ عمل وقول، كما فعلت هي فنالت الطوبى العظمى.

        

مريم هي أمنا كلنا ..لذا فلنصر كالأولاد الصغار وبكل البساطة الصبيانية فلنلقي بأنفسنا عند قدمي الكلية القداسة التي تحمل الإله العظيم كولد صغير.ولنبكِ ونهتف بمحبة كبيرة :” يا أمنا العزيزة، صلي وتشفعي لنا لدى ابنك ليكشف لنا ما يريدنا أن نفعله ونلتمسه منه . وليفتح عيني نفوسنا المقفلتين اللتين لا تسمحان لنا بمعاينته، فيما يرانا هو في كل لحظة، لكي لا نحزنه على الدوام”.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share