الإفخارستيا في تعليم القديس يوحنا الدمشقي

mjoa Wednesday December 1, 2010 301

 (عن كتاب: “المئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي”)

تدبيرُ خلاص البشر: لمّا كان الله صالحاً وكامل الصلاح وفق الصلاح وكان كلّه من الصلاح، وكان -لسبب فيض غنى صلاحه- لم يحتمل أن يكون الصلاح له وحده -أي لطبيعته- دون أن يُشارك به أحداً، فقد جعل هبة من صلاحه للقوّات السماويّة العقليّة أولاً، ثم للعالم المنظور والمحسوس، ثم للإنسان المركّب من معقول ومحسوس. إذاً فإنّ جميع من أوجدهم قد أشركهم بصلاحه من حيث وجودُهم -لأنه هو نفسه الوجود لجميعهم و”لأنّ كل شيء هو به”- لا لأنه هو نفسه قد أخرج الكلّ من العدم إلى الوجود فحسب، بل أيضاً لأنّ فعله تعالى يحفظ كلَّ ما كوَّنه ويُبقيه في الوجود، وخاصّةً الكائنات الحيّة فإنها بحسب وجودها وبحسب بقاء حياتها في الوجود تشترك بصلاحه. وبالأحرى كثيراً الكائنات الناطقة -إنْ بحسب ما سبق قوله وإنْ بحسب ذاك الناطق (الإنسان)-. فما أقربه إليه تعالى رغم أنّ الله هو الأسمى سموّاً لا قياس له!!!

وعليه فإنّ الإنسان -لكونه ناطقاً وحرّاً- قد نال سلطاناً للاستمرار -لو أراد- متّحداً بالله، شريطة أن يبقى في الصلاح أي في الخضوع للخالق. لكنه لما انحدر إلى مخالفة وصيّة جابله وسقط تحت عقاب الموت والفساد، ما كان من جابل جنس البشر وصانعه إلاّ أن يتشبَّه بنا، مدفوعاً لذلك بأحشاء رحمته وصائراً إنساناً في كل شيء ما عدا الخطيئة، ويتّحد بطبيعتنا. ولمّا كان قد أعطانا صورته الخاصة وروحه الخاصّ ولم نحافظ عليهما، فقد شاركنا هو نفسه في طبيعتنا الحقيرة والضعيفة، لكي ينقّينا وينزع عنّا الفساد ويجعلنا من جديد شركاءَه في لاهوته.

 

مفعول التجسّد في متروكات المسيح للبشر: وكان ينبغي ألاّ ينحصر الإنعام بالحياة الفضلى في الباكورة فحسب، بل أن يتجاوزها إلى كل إنسانٍ يريده، ذلك بأن يولدَ الإنسان ولادةً ثانية، وأن يغتذي بغذاءٍ ملائم لهذه الولادة فيصل إلى مقدار الكمال. فالمسيح إذاً بميلاده -أي بتجسّده ومعموديّته وآلامه وقيامته-، قد أعتنق طبيعةَ خطيئة أبينا الأول من الموت والفساد، وصار باكورة قيامتنا، وجعل من ذاته طريقاً لنا ورمزاً ومثالاً، حتى إننا نحن أيضاً، إذا ما اتّبعنا آثاره، نصير بالوضع ما هو عليه بالطبيعة، أبناءً وورثة لله وشركاء في الميراث. فهو إذاً قد أعطانا -كما قلت- أن نولد ثانية حتى إننا، كما ولدنا من آدم فماثلناه وورثنا عنه اللعنة والفساد، كذلك أيضاً بولادتنا منه نماثله فنرث عنه الفساد والبركة والمجد.

الولادة في المسيح والطعام المزدوج: تأسيس الإفخارستيّا – أكل المسيح الفصح القديم: ولمّا كان آدم هذا روحيّاً، وجب أن تكون الولادة روحية أيضاً، والطعام أيضاً كذلك. ولكن لمّا كنّا مزدوجين ومركّبين، وجب أن تكون الولادة أيضاً مزدوجة والطعام كذلك مركّباً. فإن الولادة إذاً تُعطى لنا بالماء والروح -وأعن بذلك المعمودية المقدّسة- أما الطعام فهو خبزُ الحياة نفسه، ربنا يسوع المسيح، النازل من السماء. ولمّا كان مزمعاً باختياره أن يستسلم للموت لأجلنا، في الليلة التي قرَّب فيها ذاته، وضع عهداً جديداً لتلاميذه الرسل القديسين -وبواسطتهم لجميع المؤمنين به-. ففي علّية صهيون المقدّسة المجيدة، فيما كان يأكل الفصح القديم مع تلاميذه ويكمّل العهد القديم، غسل أقدام تلاميذه، رامزاً بذلك إلى المعمودية المقدّسة، ثم كسر خبزاً فقدّمه لهم قائلاً: “خذوا فكلوا، هذا هو جسدي المسكور لأجلكم لمغفرة الخطايا” (متى 26: 26). وكذلك أخذ أيضاً الكأس من خمر وماء وقدّمه لهم قائلاً: “اشربوا من هذا كلكم، هذا هو دمي، دمُ العهد الجديد، المهراق عنكم، لمغفرة الخطايا. اصنعوا هذا لذكري. فكلَّ مرة تأكلون هذا الخبز وتشربون هذه الكأس، تُبشّرون بموت ابن الإنسان وتعترفون بقيامته، إلى أن يأتي” (متى 26: 27؛ مرقس 14: 21؛ لوقا 21: 17؛ 1كور 11: 24-26(

إعلان حقيقة الإفخارستيا – مفعول كلمات الربّ في الأفخارستيّا. – مفعول قوّة الروح القدس الذي يجعل من الخبز جسد الرب: ولمّا كان “كلام الله حيّاً ونافذاً” (عبرا 4: 12)  و”كلّ ما شاء الرب صنعه” (مز 134: 6(ولمّا كان قد قال: “ليكن النور فكان. ليكن الجَلَد فكان” (تكوين 1: 3 و6) وأنه “بكلمة الربّ صُنعت السماوات وبروح فيه جنودها” (مز 32: 6). وإذا كان كلمة الله نفسه قد شاء فصار إنساناً وشخصّ لذاته جسداً بلا زرع من الدماء النقيّة والبريئة من العيب، دماء القدّيسة العذراء الدائمة البتوليّة، أفلا يستطيع هو نفسه أن يجعل من الخبز جسده ومن الخمر والماء دمَه؟! ثم في البدء قال الربّ: “لتُنبِت الأرض نباتاً عشباً…”، وحتى الآن هي، لدى هطل المطر، تُخرج نتاتها الخاص مدفوعة ومسيّرة لذلك بالأمر الإلهي! وقد قال الله: “هذا هو جسدي وهذا هو دمي واصنعوا هذا لذكري وأنَّ هذا يكون بأمره القدير إلى أن يأتي”. أجل، فقد صرّح هكذا: إلى أن يأتي. ثم ينزل المطر على هذا الحقل الجديد، بواسطة الاستدعاء أي بقوة الروح القدس المظلّلة. وعلى هذا النحو، إن كل ما صنعه الله إنما صنعه بفعل الروح القدس، وهو الآن يعمل كذلك بفعل الروح القدس ما هو فوق الطبيعة وما لا يمكن أن يقبله إلا الإيمان وحده. وتقول العذراء القديسة: “وكيف يكون لي هذا، وأنا لا أعرف رجلاً؟”، ويجيبها جبرائيل رئيس الملائكة: “الروح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظللك”. وتتساءل أنت الآن: – كيف يصير الخبز جسد المسيح ويصير الخمر والماء دم المسيح؟ – وأنا أقول لك: يحلُّ الروح القدس ويصنعُ ما يفوق النطق والعقل.

لماذا يُستعملُ الخبزُ والخمرُ في الإفخارستيا: ونحن نستعمل الخبز والخمر، ذلك لأنّ الله -وقد كان يعرف ضعفنا البشري بإنّ الأكثرية فينا تنفر مستصعبةً ما هو ليس على مألوف عادتها- قد استعمل إذاً معنا تنازلَه المعتاد ليُجري فينا ما يفوق الطبيعة بما هو من عادة الطبيعة. وقد فعل على هذا النحو في المعمودية حيث العادة لدى البشر أن يستحمّوا بالماء ويدّهنوا بالزيت. وقد أضاف إلى الزيت والماء نعمة الروح القدس وجعل من هذا نفسه حميم إعادة الولادة. وكذلك، لمّا كانت عادة الناس أن يأكلوا الخبز ويشربوا الماء والخمر، فقد أضاف إلى ذلك لاهوته وجعل منهما جسده ودمه، لكي نبلغَ -بما هو من عوائدنا وعلى موجب طبيعتنا- إلى ما هو فوق الطبيعة.

في الإفخارستيا لا يصيرُ تنزيلُ المسيح من السماء بل تحويلُ العناصر: والقربان إنما هو جسدٌ بالحقيقة متّحد باللاهوت، وهو الجسد المأخوذ من العذراء القديسة، ليس على أنه الجسد الذي كان قد ارتفع إلى السماء ينحدر منها، بل إنَّ الخبز نفسه والخمر نفسه يتحوّلان إلى جسد الله ودمه. وإذا تساءلتَ عن الطريقة وكيف حدث ذلك، فيكفيك أن تستمع بأنّ ذلك يتمّ بالروح القدس. وكما أنّ الربَّ قد شخَّص لذاته وبذاته جسداً بواسطة الروح القدس من والدة الله القدّيسة، ولسنا نعرف أكثر من ذلك سوى أنّ كلام الله صادقٌ ونافذٌ وقديرٌ ولا يمكن تفسير كيفيته، غير أنه ليس مستهجناً أيضاً هذا القول بأنه، كما يتحوّل تحويلاً طبيعيّاً الخبز بالأكل والخمر والماء بالشرب إلى جسد ودم الآكل والشارب، ولا يتحوّلان إلى جسم آخر غير جسمه الأول، كذلك قل عن خبز التقدمة والخمر والماء باستدعاء الروح القدس وحلوله. فإنهما يتحوّلان تحويلاً يفوق الطبيعة إلى جسد المسيح ودمه. ولا يكونان اثنين، بل هما واحد وهو هو نفسه.

وعليه يكون لمن يتناولونه بإيمان وعن استحقاق لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية ولصيانة النفس والجسد. أمّا للذين يتناولونه عن غير استحقاق وبدون إيمان، فيكون لعقابهم وتعذيبهم، شأنه شأن موت الربّ. فهو للمؤمنين حياة وعدم الفساد ويؤدّيان إلى التمتّع بالسعادة الأبدية. وهو لجاحدي الرب وقاتليه يكون لعقابٍ وعذاب أبديّين.
جسد الربّ حقيقة وليس رمزاً: ليس الخبز والخمر رمزين لجسد المسيح ودمه -حاشا- بل هو جسد الربّ نفسه متألّهاً، جسد الربّ الذي يقول هو نفسه: “هذا ليس رمز جسدي، بل جسدي، ولا رمز دمي، بل دمي”. وكان قبلاً قد قال لليهود: “إن لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه، فلا حياة في أنفسكم… لأن جسدي مأكل حقيقي ودمي مشرب حقيقي” (يوحنّا 6: 53، 55، ( 57وأيضاً: “من يأكلني يَحْيَ”.

رتبة منح الإفخارستيا بالأيدي: لذلك لنتقدّم بكل تهيّب وبضمير نقي وبإيمان لا يتزعزع، -ويكون لنا تماماً كما نؤمن إذا لم نتردّد- ولنكرمنَّ إياه بكل نقاوةٍ نفسيةٍ وجسديةٍ، لأنه مزدوج. لنتقدّمنَّ إليه بشوق ملتهب، ممثّلين براحتينا شكلَ صليب ونتقبّل جسد المصلوب. ولدى تناولنا الجمرة الإلهية، نضعها على عيوننا وشفاهنا وجبهاتنا، لكي -إذا ما نارُ الشوق التي فينا استمدّتا الحرارة من الجمرة- تُُحرق خطايانا وتُنير قلوبنا ونلتهب ونتألَّه بمساهمة النار الإلهية. فقد أبصر أشعيا جمرة (أشعيا 6: 6). والجمرة ليست مجرّد وعود، بل هي عودٌ متّحد بالنار. كذلك أيضاً خبز الشركة. فهو ليس مجرّد خبز، بل هو خبزٌ متّحدٌ باللاهوت. والجسد المتّحد باللاهوت ليس طبيعة واحدة، بل هو طبيعة الجسد وطبيعة اللاهوت المتَّحد هو به، حتى إنّ كليهما ليسا طبيعة واحدة، بل هما اثنتان.

رموز الإفخارستيا: لدى عودة إبراهيم من كسر أعدائه، استقبله ملكيصادق، كاهن الله العليّ بخبز وخمر. وكانت تلك المائدة قد سبقت وصوّرت المائدة السريّة هذه، كما أنّ ذاك الكاهن كان رمزاً وصورةً للمسيح الكاهن الأعظم الحقيقيّ، لأن النبيَّ يقول: “أنت كاهن إلى الأبد على رتبة مكليصادق” (مز 109: 4). وخبزات التقدمة تلك كانت صورة لهذا الخبز. هذه هي إذاً الذبيحة الطاهرة أي غير الدموية التي تكلّم عنها الرب بلسان النبيّ: “إنها تقرَّب له من مشارق الشمس إلى مغاربها” (ملاخي 1: 11(

 

ثمار الإفخارستيا:
إنَّ جسد المسيح ودمه يؤُولان إلى قيام نفسنا وجسدنا. وحاشا أن يكون ذلك إلى أن يتبدّدا ويصيرا إلى الخارج! بل هو إلى تكويننا وحفظِنا ووقايتنا من كل الأضرار وتطهيرنا من كلّ الأدناس. فإذا وجدا فينا ذهباً مغشوشاً ينقّيانه بالنار المطهّرة، لئلا يحكم علينا في المستقبل مع العالم. لأنهما ينقّياننا من كل الأمراض ومن كل عارض يَدهمنا، كما يقول الرسول الإلهيّ: “لو كنّا نَدينُ أنفسنا لما كنّا نَدان. وفي دينونتنا هذه إنما يؤدبنا الرب لئلا يُحكم علينا مع العالم” (1كور 11: 31-31). وهذا هو قوله: “لأنّ من يأكل ويشرب جسد الرب ودمه وهو على خلاف الاستحقاق، إنما يأكل ويشرب دينونة لنفسه” (1كور 11: 29). أمّا إذا تطهّرنا به فنتّحد بجسد الرب وبروحه ونصيرُ جسد المسيح.

خبز المستقبل أو الخبز الجوهريّ. – جسد الربّ بمعناه الروحيّ: وهذا الخبز إنما هو مقدّمةٌ للخبز المستقبل وهو الجوهري  . والجوهريّ يعني إمّا الآتي أي الدهر الآتي أو المأخوذ لحفظ جوهرنا. فإن كان هو على هذا النحو أو ذاك، فهو يُسمَّى عن جدارة جسد الربّ، لأنَّ جسد الربّ روحٌ محيي، إذ إنه قد حُبل به من الروح المحيي. والمولودُ من الروح روح. وإنما أقول هذا، لا لأنفي طبيعة الجسد، بل لأني أريد أن أوضِّحَ ما فيه من قوّة محيية وإلهية.
ما معنى تسمية باسيليوس الإفخارستيا تمثيلَ جسد الربّ ودمه: وإذا كان بعضهم يسّمي أيضاً الخبز والخمر تمثيلاً أو بديلاً  لجسد الربّ ودمه – كما يفعل ذلك باسيليوس اللابس الله-، فلا يكون ذلك بعد التقديس، بل هم يسمّون التقدمة نفسها هكذا، قبل تقديسها.

أسماء الإفخارستيا الأخرى: وتسمّى الإفخارستيا تناولاً، لأننا نتناول بها لاهوتَ يسوع. وتُسمّى شركة -وهي بالحقيقة كذلك- لأننا بها نُشرك ذواتنا بالمسيح فنتقبّل جسده ولاهوته. وبها يشترك ويتّحد بعضنا مع بعضٍ. ولمّا كنّا نتناول خبزاً واحداً، فإننا نُصبح كلنا جسد المسيح الواحد ودمه الواحد وبعضنا أعضاء بعضٍ، لأننا جسم المسيح الواحد.

لا شركة مع الهراطقة: وعليه فلنحذر بكلّ قوّتنا من أن نقبل تناول الهراطقة أو نمنحهم إيّاه، لأنّ الرب يقول: “لا تعطوا القدس للكلاب ولا تُلقوا جواهركم قدّام الخنازير” (متى 7: 6)، لئلا نصير شركاء في ضلالهم وفي الحكم عليهم. ولما كان اتحادنا حتماً اتحاداً بالمسيح، واتحاد بعضنا ببعض، فنحن نتّحد حتماً بجميع المتناولين معنا على حسب اختيارنا. فبدءاً من اختيارنا يصير هذا الاتحاد وليس بدون عزمنا. والرسول الإلهي يقول: “إنّا نحن الكثيرين جسدٌ واحدٌ، لأنّا نشترك جميعاً في الخبز الواحد” (1كور 10: 17(

ملاحظة: وإذا دُعيت القرابين أمثال المستقبلات، فليس يعني هذا أنها ليست جسد المسيح ودمه، بل ذلك أننا الآن نشترك فيها بلاهوت المسيح. أما حينئذٍ فبالمشاهدة العقليّة وحدها.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share