“الحياة” بقلم المطران جورج خضر

mjoa Monday December 6, 2010 86

الحياة، بمعناها البسيط، هي المساحة التي تمتدّ من لحظة الولادة الى ساعة الموت. وفيها جوانب كثيرة لا بدّ

من الإحاطة ببعض منها لنفهمها بكليّتها. أبدأ بما هو على سطح الوجود أعني الجسد. هذا هو البرهان الساطع على وجودنا. أعضاؤنا فيه او منه. نحسّ به معافى او مريضًا. مزاجنا يتقلّب بتقلّبه. نعبّر به عن كثير من مشاعرنا. تتسجل فيه كل خاطرة من خواطرنا ان تفكرنا حسنًا او تفكرنا بسوء. هو قريبنا واحيانًا صديقنا. يسحرنا بصورة مذهلة اذا أدركنا وظائفه وذلك الارتباط العجيب بينها.

اللحم والعظام، الدم، الهواء، كيف يترابط كل هذا ليستقيم. هذا الكيان المحسوس يسهم في قيادة الناس الى الله اذ لا تقدر المادة ان تنتج الحياة بمعناها الراقي؟ كيف يرافقك اختلالك وتبقى في سر وحدتك وسلامة كبيرة او قليلة حتى تبيد وحدتك اذ يستردّك الله الى رحمته.
ولعلّ السحر يقوى عندما تتأمّل ان جسدين اذا تلاقيا ينتجان جسدًا آخر اي حياة أخرى. وهذا يحدث فيهما كليهما نموًا لا انتقاصًا وانتعاشًا وحلاوة وحرية. انت ترى ولا تفهم ان الإنسان كله في الجنين، في بيولوجيته وطبائعه استعدادًا للتربية.

الى هذا ليست المعمورة جسما واحدًا. هي الآن ما يقرب سبعة مليارات بشري من كل الألوان والقامات، كل منهم يختلف عن الآخر في كل جزء من أجزائه المنظورة وغير المنظورة. انت على المستوى الأدنى من الوجود تعرف البشر من خلال عيونهم وأيديهم وما اليها. هذا اول صعيد المعرفة التي لا احتقار فيها لأحد ويستوي فيه القوي والضعيف، الصحيح والمعوق. البشر كلهم في حالة التمجيد لله عرفوا ام لم يعرفوا. اذ قال أحد آبائنا ان الجسم ايضا هو مع النفس على صورة الله والرب في العهد الجديد لم يتكلّم مرة على الجمال الذي عند بعض. ومرد ذلك ان كل ابنائه متساوون عنده في ما يبدو منهم كما هم متساوون في محبته لهم. الله يضع في كل واحد منا بهاءه وهذا لا علاقة له بما يظنه الإنسان تفوقا فيه.

• • •

أعظم من الجسد العقل الذي نغوص فيه على أسرارنا وأسرار الكون. قال الأقدمون ان الإنسان حيوان ناطق والمراد به العقل وبه يمتاز عن كل الخلائق. وهذا مرتكز على الدماغ لكنه ليس الدماغ. العقل بالعربية الربط ومظهره المنطق وفي اللغة هو نطاق الذي يوحد الفكر اي يكتشف الرؤية ويجعل الإنسان بعد الله سيد الخليقة لكونه يستوعبها بحيث تجتمع كلها في عقله.

تتكون بنا المعارف ونسعى لجمعها فينا حتى تأخذ وحدتها وبهذا يأتي العمل الذي به نغير العالم ونجبل أجزاءه وهذا ما أراده الله عندما دعانا الى التسلّط على الدنيا وفي لغة الله ليس لنا في هذا كبرياء ولكن لنا الخدمة وبالخدمة يرتقي الكون اذ نؤنسنه. وفي هذا نصبح متواضعين. السلطة التي لنا هي التواضع الذي به يعظم الكون فينا ونحن نعظم به.

نحن ندخل الكون ولا نقتحمه. واذا جئناه بلين نتروض على الرقة. العقل يمكن ان يصبح طريقا الى المحبة. لولاها يستبدّ الفكر وبها ينجو من عنجهية له ممكنة فيصير أداة دمار وموت لنا وللآخرين. لذلك لا نوافق قول ابي العلاء المعري ان لا إمام الا العقل. ذكاء شاعرنا العظيم كان يجب ان يعصمه عن هذا التأكيد الذي أراد به محاربة الخرافات لكن العقل السليم حر من الخرافة. يحتاج الى بركات من فوق ليتحرّر من تعصبه ضد الالتواء الذي يأتي من كل انحراف في الفكر.

اقلّه ان العقل زينة كما تقول العامة. لكنه أهم من ذلك. هو بنيتنا في سعته وشموليته وان كان العالِم والجاهل يتساويان امام الله. اجل يزعجك الجاهل ان كنت فهيمًا ولكن يجب ان تضم الجاهل اليك لأنه حبيب الله ويساعدك الا تفتخر بالفكر. النعمة الإلهية تنزل على من تشاء. ليس شأنك بل شأن الله انه يسكب عليك التماع وجودك. الاستكبار إثم كبير مشوّه لصورة الله فيك. ولكن قد تحب اجتماع الأذكياء. هذا كله تنمية لك ولهم وبدء إخاء. وفي الإخاء مجد الله.
وهذا يفضي الى تفتق المواهب وتوزيعها. فلتأتِ الحقيقة من حيث تستطيع والى من يتقبّلها. العقل الذي يسبح في الحقيقة هو ما يريده الرب لك. انت لست غاية ذكائك. الله والإخوة هم الغاية من قوة فكرك. لا تنظر الى عقلك كما الى مرآة. انظر فقط الى من تخدم.

• • •

عند الأرثوذكس كلام يقول ان العقل يجب ان ينزل الى القلب ليتطهّر ثم يصعد حتى يصير عقلا طيبا. ويقول احد المتصوفة (الحلاج) لله: “مكانك من قلبي القلب كله”. القلب اذًا عند كبارنا ليس مكان التأثّر العاطفي. انه مكان الفهم اذا نزل الله اليه وكأن كبارنا يقولون ان الله مصدر الفهم.

هذا يذهب بي الى إنجيل يوحنا في رواية العشاء الأخير. يقول: “وكان متكئًا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ اليه سمعان بطرس ان يسأل من عسى ان يكون الذي قال عنه (يهوذا الاسخريوطي) واتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو” (13: 23-25). في التصورات العبرية الحضن هو مكان العاطفة التي كان التلميذ الحبيب يتقبلها. غير انه لما اتكأ هذا على صدر المعلم وصل الى القلب اي الى مكان الفهم.

انت تفهم عندما يخاطبك الله، عندما يضمّك اليه. تصير، عند ذاك، صاحب قلبك، ويسكنه الله. يصبح فهم الله فهمك. عندئذ تضم الكون اليك. بعد هذا تفهم انت الكون وذلك في عملية تلاقي العقل والقلب.

هذا يصبح الأعلى اذا أحبّ وتقبّل العقل فيه. الفاهم هو الله فيك.

التكوين البشري يبدأ بالجسد الذي هو من تراب والنفَس الذي نفخه الله فيه. اذًا عندنا تراب وعقل وترابية ترتقي الى العقل. ثم اذا استراح الفكر في القلب وأخذ منه الحب يتنقى. واذا استترت المحبة فيك “تتأنى وترفق. ولا تتفاخر ولا تنتفخ… لا تظنّ السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق” (1كورنثوس 13: 4 – 6).

الإنسان جسد يرقى الى عقل وعقل يعلو بالقلب. هذه مجتمعة مراقي وجود يصبو الى كمال حتى اذا رآه الله يحسب انك أكملت سعيك في الأرض اذ لا يليق بك بعد هذا الا السماء.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share