القطيع الصغير ملح الوطن

الأب جورج مسّوح Monday January 31, 2011 111

يتنامى القلق لدى المسيحيّين في البلاد العربيّة في شأن بقائهم جماعات وازنة في مجتمعاتهم المختلطة. فوجودهم بات هدفًا معلنًا للإرهابيّين، وسط صمت مريب للحكومات العربيّة والمرجعيّات الإسلاميّة التي تزعم “الوسطيّة”. وليست التفجيرات، التي استهدفت كنيسة “سيّدة النجاة” في بغداد وكنيسة “القدّيسَين” في الإسكندريّة، سوى رأس جبل الجليد الذي يخفي أكثر ممّا يُظهر.

وإنْ كان المسيحيّون المشرقيّون يرضون لأنفسهم وصف الربّ يسوع لهم بأنّهم “القطيع الصغير”، غير أنّهم مدعوّون إلى الثبات في ديارهم حيث يريد لهم الربّ أن يشهدوا له ولكنيسته. بيد أنّ أعدادهم تشير إلى أنّ كلام الربّ قد تحوّل من مجرّد وصف إلى نبوءة تتحقّق على أرض الواقع المرير. فعراق ما بعد الاحتلال الأميركيّ خلا من نصف مسيحيّيه، وفلسطين، مهد المسيح، تكاد أن تفرغ من خلاّن يسوع. أمّا أوضاع المسيحيّين في لبنان، ففي مهبّ الصراع السنّيّ-الشيعيّ على النفوذ، وقد تراجع حضورهم على المستويات كافّة.

أمّا المسيحيّون القاطنون في البلاد التي يسودها حكم الحزب الواحد، كما في سورية ومصر، على الرغم من التوتّر الطائفيّ في مصر، يجدون في النظام القائم خير ضامن لهم ولبقائهم، ولذلك يوالونه، ويدعون له بطول العمر. ولنا في تصريحات البابا شنودة الداعمة للرئيس المصريّ حسني مبارك، بعد انتفاضة الشعب المصريّ، خير دليل على ذلك. غير أنّ الخوف يسيطر عليهم من تغيّر الأحوال وانقلاب الدهر، وازداد لديهم هذا الخوف بعد سقوط النظام العراقيّ السابق ومعاينتهم ما جرى لإخوانهم المسيحيّين في بلاد الرافدَين.

يأتي الاحتلال الإسرائيليّ والأميركيّ في طليعة الأسباب التي تدفع المسيحيّين إلى الهجرة من فلسطين ومن العراق على السواء. فخلال ستّين عامًا من عمر الكيان الإسرائيليّ انحدر عدد المسيحيّين في فلسطين، مهد المسيح ووطنه، من نحو عشرين بالمائة من مجمل السكّان إلى نحو اثنين بالمائة فقط، وفق الإحصاءات الأكثر تفاؤلاً. أمّا في العراق، فسبع سنوات من الاحتلال الأميركيّ، وما نتج منه من عنف مذهبيّ ضدّ المدنيّين، تكاد أن تقضي نهائيًّا على الوجود المسيحيّ الذي يرقى إلى أيّام الرسل حواريّي المسيح.

في لبنان، تتعدّد الأسباب الكامنة وراء تراجع أعداد المسيحيّين. فبالإضافة إلى الدوافع الاقتصاديّة والماليّة لتحسين الظروف المعيشيّة التي تجعل المسيحيّين يفضّلون الهجرة على البقاء في أرض أجدادهم، لا يمكن غضّ النظر عن الحروب الأهليّة والخارجيّة المتعدّدة التي نشبت في أرجاء الوطن من شماله إلى جنوبه، وعن التهجير الذي طال شريحة واسعة من المسيحيّين، وعن الإحباط الذي أصابهم ولم يشفوا منه بعد، وعن فشل قيام الدولة وإجهاضها منذ نشأة لبنان الكبير إلى يومنا الحاضر، وعن فشل النظام الطائفيّ والتحاصصيّ في تأمين الاستقرار لهم ولأبنائهم، وعن تصاعد العنف الداخليّ والتهويل بفتنة مذهبيّة داهمة، وعن سواها من الأسباب التي يضيق بنا المجال هنا لعرضها.

يسعنا أن نضيف إلى هذه الوقائع تصاعد التطرّف الدينيّ، وبخاصّة التطرّف الإسلاميّ الذي بات، بدون أيّ منطق عقلانيّ، لا يفرّق بين المسيحيّين المشرقيّين، شركاء المسلمين في بلاد العرب، و”الغرب المسيحي”. فالوجود المسيحيّ، وعلى خلاف التصريحات العديدة التي تصدر هنا وثمّة، أمسى لا يهمّ المسلمين المنشغلين بفتنهم الداخليّة في ما بينهم. فالمقولة، التي تتردّد من حين إلى آخر على ألسنة الغيارى بأنّ اختفاء المسيحيّين من بلادنا إنّما هو “خسارة للتعدّديّة”، إنّما هي مقولة صحيحة، ولكن ينقصها القول أيضًا أنّ اختفاء المسيحيّين لا يعني إنّ ساكني هذه البلاد، بعد جيل أو جيلين، لن يعتادوا العيش في مجتمع خالٍ، أو يكاد أن يكون خاليًا، من وجود مسيحيّ فاعل. وربّما سيمتدحون مجتمعهم الأحاديّ الجديد، ويحمدون اللَّه على إنعامه عليهم بديانة واحدة يدينون بها كافّةً. أليس هذا واقع الحال في العديد من الدول التي شهدت حضورًا مسيحيًّا مزدهرًا عبر التاريخ، ثمّ اندثر منها منذ قرون أو عقود خلت؟

ليست ضمانة المسيحيّين، بوفق الخبرات التي راكموها عبر قرن انقضى من الزمان، في الاحتلالات الغريبة ولا في الوصايات الأجنبيّة، ولا في النظام الطائفيّ، ولا في الأنظمة الديكتاتوريّة. فالغرب لا يقيم وزنًا لهم حين تحضر المساومات في سوق المصالح، ولا يهمّه أمرهم، فلإسرائيل وأمنها الأولويّة المطلقة. والنظام الطائفيّ لن يدوم لمصلحتهم، فحين يختلّ التوازن العدديّ، سيصبح لكلّ طائفة ما يوازي وزنها العدديّ، ولن تبقى لا مناصفة ولا مثالثة، وستنال كلّ طائفة ما يتناسب مع حجمها، وهذا فيه إنصاف وعدل ومساواة! أمّا النظام الديكتاتوريّ، فلن يدوم إلى الأبد.

لقد تبنّى المسيحيّون العرب منذ القرن التاسع عشر، بل قبل ذلك أيضًا، قضايا العرب ونهضتهم وتحرّرهم. فابتكروا أفكارًا جديدة تؤكّد النقاط الجامعة بين المسلمين والمسيحيّين، وعملوا من أجل تحقيق المبادئ السامية التي نادوا بها، وعلى رأسها الحرّيّة والمواطنة الكاملة، التي تعني المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد كافّة. وكان هؤلاء المسيحيّون يعتقدون يقينًا بأنّ لا نهضة لهم من دون نهضة المسلمين، وهذه النهضة تستدعي شراكة كاملة تحترم المبادئ الكبرى التي أبدعها الفكر الإنسانويّ آنذاك.

على خطى آبائنا المسيحيّين في الفكر العربيّ، نتبنّى نحن أيضًا القضايا العربيّة، فمقاومة للاحتلال في بلد أو أكثر، وسعي إلى المواطنة الكاملة في بلد ثانٍ، وعمل دؤوب على المساواة بصرف النظر عن الانتماء الدينيّ أو المذهبيّ أو العرقيّ في بلد ثالث، وتصدٍّ للتخلّف الدينيّ والتشدّد الطائفيّ في بلد رابع… هكذا يصبح المسيحيّون ملح أوطانهم عن حقّ.

 

مجلة النور، العدد الأول 2011، ص 2-3

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share