موتك حياتي – منتخبات آبائية لزمن الصوم الكبير المقدس

mjoa Thursday February 17, 2011 327

“إنك إلهي أيها المسيح، ولا أخجل بذلك وإن كان رجالٌ أثمةٌ قد قبضوا عليك، ولا أُنكر انك جُلدت على ظهرك، ولا أخفي أنك سُمِّرت على الصليب، بل أفتخر بقيامتك، لأن موتك كان حياتي، فيا أيها الرب القدير المحب البشر المجد لك”
من صلاة المساء للحن السابع في المعزي .

 

 عندما يغادر شخص في رحلة، عليه أن يدرك الوجهة التي يقصدها. والأمر صحيح بالنسبة للصوم الكبير. فهو قبل كل شيء مسيرة روحية غايتها الفصح، “عيد الأعياد وموسم المواسم” حيث نلتقي مع وجه المسيح القائم من بين الأموات. و مقدار نمو الحياة الروحيّة يقاس بمقدار ما يتحقّق هذا اللقاء. لأهميّة هذه الغاية رتّبتْ الكنيسةُ مسيرةً إعداديّة طويلة محكمةً وعميقةَ الأبعاد وغنيّةَ المعاني. تقدَّم هذه المسيرة للمؤمن المشارك بها إمكانيّة التقدّم الفعليّ نحو الفصح.

 

هذه المسيرة تسمّى فترة “التريودي”، و تقودنا ليتورجيّة هذه الفترة خطوة بعد خطوة إلى التدرّج على المصاعد الروحيّة حتّى القيامة. إنّ مَن يدرك فعلاً العمق الروحيّ لهذه “الدرجات” يعتريه الذهول من الحكمة الإلهيّة الكامنة في هذا الترتيب . حيث تبدأ التهيئة للصوم في الآحاد الأربعة التي تسبقه : الشوق للقاء السيد في أحد زكا، التواضع في أحد الفريسي والعشار، العودة من الغربة (أحد الابن الضال)، الدينونة (أحد الدينونة)، الغفران (أحد الغفران) . يليها الصوم الأربعيني الذي نلتقي فيه بنماذج تاريخية كل أحد(القديس غريغوريوس بالاماس،القديس يوحنا السلمي، القديسة مريم المصرية) والتي هي أعمدة مضيئة ونماذج حية للتوبة وعيش الإيمان. يتخللها أحد السجود للصليب في منتصف الصوم ، والمديح الذي لا يُجلس فيه. وفي النهاية يشبه أسبوع الآلام قدس الأقداس الذي بابه أحد الشعانين ومذبحه خدمة الآلام.

والمسيحي المؤمن الذي يرغب في خوض هذه الرحلة عليه أن يبحث عمن يستعين به حتى لا يتوه في طريقه أو تفتر قواه ، فيبحث عمن عاشوا الحياة الأبدية ليرى الإله مترجماً في حياتهم . وإن كنيستنا الأرثوذكسية قد عُرفت بأنها”كنيسة الآباء” وعرّفت الآباء بأنهم: المعلمون الروحانيون, والكارزون ببشرى القيامة, وذوو المواهب المتعددة, وحَملة الرأي القويم والتقليد المسلَّم إلى الرسل, والذين يعبِّرون نطقياً بإنارة الروح القدس عن خبرة الحقيقة الأبوية التي هي نور وهدى , وهم الذين يَلدون البشر في المسيح كما يشير بولس الرسول ” لأنه وان كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون.لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” . لقد اختطف الآباء أنوار الروح القدس الفاعلة في الكنيسة وترجموا هذا الإشراق في نصوصهم فجعلوا وعد الرب بإرسال المعزي حقيقة بارزة وبيَّنوا أنه ” يرشد ويعلِّم كل شيء ويذكّر بكلِّ ما قاله المسيح في حياته “.

فالآباء في المسيح هم الذين سكن فيهم روح الرب القدّوس. لهذا صار بإمكانهم أن يفسّروا لنا الكتب. الكتاب المقدّس هو كلمة الله. وإذا ما كان الكتاب المقدّس كلمة الله، فمَن يستطيع ان يفسّره لنا غير الذي تكلّم فيه؟ لا يعرف الله إلا روح الله الذي فيه. نحن بإمكاننا أن نفسّر ما هو للإنسان، إذا اجتهدنا، إذا تعلّمنا، ولكن، مَن الذي يفسّر لنا كلمة الله؟ وحده روح الله يقدر أن يفسّر كلمة الله. وآباؤنا هم الذين اقتنوا روح الرب القدّوس، فبات بإمكانهم أن يفسّروا، باستقامةٍ، كلمة الحق. لهذا السبب، هذه الكلمة التي نتلقّفها من أفواههم، نتمسّك بها تمسّكاً كاملاً.

لذلك فإن مدوّنات الآباء ليست امتداداً للحياة الجسدية إنما هي نتيجة طبيعية لمسرى التأله , tنجد فيها روحاً تميزها عن مصنفات هذا الدهر. وتجدر الإشارة إلى أن نصوص صلواتنا الليتورجية التي وُضعت للخدمة الإلهية ليست سوى مجموعة لمختارات من مؤلفاتهم وعطائهم اللاهوتي.

 
 

و خلال الصوم الكبير يأخذ البعد الكتابي حجماً متعاظماً في العبادة. و يمكن للمرء أن يقول أن أيام الصوم الأربعيني هي عودة الكنيسة إلى الحالة الروحية في العهد القديم الذي سبق المسيح، زمن التوبة والتوقّع والانتظار. هذه العودة ضرورية وإنْ كنّا ننتمي إلى زمن ما بعد المسيح، وإنْ كنّا قد عرفناه واعتمدنا باسمه. فنحن نسقط على الدوام بعيداً عن الحياة الجديدة التي أعطانا إيّاها. هناك مبدءان يحرّكان استعمال العهد القديم في العبادة في فترة الصوم الكبير: من جهة هناك قراءة سفر المزامير مرتين في الدورة الأسبوعية الطقسية، ومن جهة أخرى، هناك القراءة المتسلسلة الكاملة للأسفار الثلاثة: التكوين، أشعياء ,والحكمة . إضافة إلى نصوص من العهد الجديد (الأناجيل الأربعة والرسائل) .

وقد أراد معدّ الكتاب( القارئ يوحنا) أن يتأمل في كل يوم من أيام هذه الرحلة بآية من أحد النصوص المختارة (والقسم الأكبر هو من العهد القديم) ، آتيا على ذكر أقوال لكبار آباء كنيستنا وقديسيها تدور حول موضوع الآية، لتساعدنا على فهمها حقا ، ولنتعلم كيفية عيشها بأمثلة حية .

ففي أحد الابن الشاطر يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن التوبة “يشمل النوح على الخطايا كآبة حلوة جدا ومرارة شبيهة بالعسل، لأنه متَبَّلٌ برجاء صالح وممتاز. لذلك يغذي الجسد ويجعل عمق النفس يتلألأ فرحا، ويسمّن القلب ،ويجعل الجسم نفسه نضرا. لقد كان داوود على حق عندما رنم قائلا: صارت دموعي خبزا لي نهارا وليلا” . وفي أحد الدينونة:  “يكون الله نورا للبعض ،ونارا للبعض الآخر، وذلك وفقا للجوهر والنوعية التي يجدها في كل منهم “القديس غريغوريوس اللاهوتي .

ويشير القديس أثناسيوس الكبير للاهوت الإيقونة في أحد الأرثوذكسية (استقامة الرأي) : “نحن المؤمنين نوقّر الإيقونات، ولكن لا كآلهة، بل نظهر لها فحسب استعداد المحبة الموجهة إلى الشخص المصوَّر على الإيقونة.”
وفي انتصاف الصوم نتشدد بصليب المسيح: “لا نخجلنّ من الاعتراف بالمصلوب، ولنجعل الصليب ختمنا يرتسم بجرأة بأصابعنا فوق جبيننا وفي المناسبات كافة: فوق الخبز الذي ناكله، قبل النوم وعندما نكون على الطريق …. ” القديس كيرللس الأرشليمي
و يشير باختصار إلى الدرجات الثلاثين المفضية إلى الله في أحد القديس يوحنا السلمي.
ويوضح القديس مكسيموس المعترف هدف التجربة في الأربعاء من الأسبوع الخامس : “متى باغتتك التجربة لا تعتب على من به وافت إليك ، بل ابحث عن الهدف منها فتجد الطريق للاستفادة منها…”

وفي ذكرى العشاء السري يوم الخميس العظيم يشير ثيوذورس الموبسوستي : “هو لم يقل هذا هو رمز جسدي، ولم يقل هذا هو رمز دمي، بل قال هذا هو جسدي ودمي. بغية تعليمنا وجوب عدم النظر إل طبيعة ما هو موجود أمامنا ، بل أن ما هو هنا قد تحول إلى جسد ودم بالإفخارستيا”. ويتحدث القديس كبريانوس عن واجبات الكهنة والأساقفة “يجدر بالأسقف أن يعترف بالرب حيث يقود كنيسة الرب، وهكذا يتمجد كل الشعب باعتراف رئيسه ، فلأسقف الذي يتكلم بإلهام الله إنما يكون متكلما باسم الجميع في أوان اعترافه ….”

وفي نهاية الرحلة نصل لأحد الفصح : “بعد قيامته قال الرب لمريم المجدلية صورة الكنيسة، فيما كانت تبادر لتلمسه : لا تلمسيني فإني لم أصعد بعد إلى الآب. أي لا أريدك أن تأتي إلي جسديا ولا أن تعرفيني بحس الجسد ، بل أدخر لك حقائق أكثر سموّاً، وأعد لك ما هو أعظم . فعندما أصعد إلى أبي سوف تلمسينني على نحو أكثر كمالا وأوفر حقيقة. إذ إنك ستمسكين بما لا تلمسين وستؤمنين بما لا ترين ” القديس لاون الكبير

لا بدّ أن نأخذ الصوم بجديّة. هذا يعني، على المستوى العميق، أن هناك تحدٍّياً روحياً يستلزم استجابة، قراراً، خطة، وعملاً متواصلاً. وأسهل طريق يمكن للمرء أن يسلكه هو أن يتّبع توصيات الكنيسة خلال فترة للصوم. أن نأخذها معنا من الكنيسة  إلى البيت، إلى حياتنا، كتأمل في حياتي، في واجباتي المهنية، في اهتماماتي، في علاقاتي… ولن نجد رفقاء في دربنا هذه أفضل من آباء كنيستنا وقديسيها الذين امتلؤوا من روح الرب وتركوها تفعل في حياتهم وكانوا بها يحيون ويتحركون ويوجدون ، لكي يرشدونا إلى الطريق القويم بأقوالهم الروحية والعقائدية والتعليمية، ويشددوا مسيرتنا نحو الفصح وقيامة الرب .آمين .

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share