يقول المطران جورج خضر: “ما يؤهّلنا حقًّا أن ننعت المسيحيّة بالعربيّة هو أنّ كلّ فرقها بلا استثناء منذ ألف سنة ونيّف كتبت بالعربيّة. وكتاب غراف بالألمانيّة “تاريخ الأدب المسيحيّ العربيّ” يورد أسماء الكتب المسيحيّة التي وُضعت بالعربيّة عند الأقباط والسريان والنساطرة والروم والموارنة وهي ألوف مؤلّفة، ولكنّها لم تُنشر (…) فإذا لم نلجأ إلى مقولة القوميّة، التي لم تكن واردة في أذهان الناس في العصور الغوابر، واكتفينا بالمفهوم الحضاريّ وجب التأكيد على أنّ المسيحيّة نطقت قبل الإسلام وبعده بالعربيّة، وأنّها جملةً استخدمت جميعها، بمقادير مختلفة، اللسان العربيّ منذ ألف سنة”.
من النافل القول إنّ المسيحيّين موجودون منذ بدء المسيحيّة وإلى اليوم في كلّ بلاد الشرق الأوسط، ونذكر هنا البلاد التي يشكّل المسيحيّون فيها جزءًا لا يتجزّأ من نسيج سكّانها الأصليّين: مصر، السودان، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق، إيران، تركيا. ولا نملك عنهم أيّ معلومات دقيقة في شأن عددهم ونسبتهم إلى إجمالي عدد السكان. فإذا كان العدد، في علوم الرياضيّات، حقيقةً لا لبس فيها، فهو، عند عرب اليوم، رأي أو وجهةُ نظر، كاستفتاءاتهم وانتخاباتهم وميزانيّاتهم. لذلك، تتراوح أعداد المسيحيّين في العالم العربيّ بين حدّين أقصى وأدنى بحسب غايات مَن يعلنها أو ينشرها وما يهدف إليه من خلالها. ولأنّ الأرقام ليست دقيقة لن ندخل فيها.
تشهد المجتمعات العربيّة، منذ سنوات، تراجعًا للحضور المسيحيّ في الحياة العامّة. فالمجالات المشتركة التي كان يمكن أن تجمع المسلمين والمسيحيّين في عمل مشترك، أعني القوميّة العربيّة والاشتراكيّة والأحزاب العلمانيّة، قد فشلت في بناء دولة الإنسان والديموقراطيّة والحرّيّة والمواطنة والنهضة العلميّة والثقافيّة وتحرير فلسطين… وأدّت في الآن عينه إلى إحباطات كثيرة. بل الأنكى أنّ الدول التي رفعت هذه الشعارات قد تحوّلت إلى ديكتاتوريّات لا تطاق. فبعد أن تقاسم العرب المسيحيّون مصيرًا واحدًا مشتركًا مع المسلمين العرب، وتبنّى معظم المسيحيّين العروبة قاسمًا مشتركًا مع المسلمين ضدّ تتريك المنطقة، ثمّ ضدّ الانتدابات الأوروبيّة وضدّ الكيان الصهيونيّ، انحرف “العروبيّون” الذين أمسكوا بزمام السلطة عن الأهداف السامية التي رفعوها. وهذا ما زيّن للناس أنّ الأصوليّة الدينيّة هي البديل الأمثل لحلّ كلّ المشاكل.
هذا التراجع للدور المسيحيّ في الحياة العامّة ترافق مع هجرة كثيفة أدّت إلى تقهقر أعداد المسيحيّين إلى مستوى يثير القلق. فالدكتور طارق متري يقول إنّ مجموعة من المختصّين والكتّاب قد قدّرت نسبة المسيحيّين إلى مجموع السوريّين واللبنانيّين والأردنيّين والفلسطينيّين المقيمين بحوالى العشرة بالمائة. ويعزو الدكتور متري تدنّي عدد المسيحيّين في المشرق العربيّ، الذي كان يقدّر عددهم في بداية القرن العشرين بحوالى ربع السكّان إلى أسباب عديدة، تختلف باختلاف الحِقب والانتماء المناطقيّ. فيرفض متري اختزال أسباب التدنّي إلى انخفاض معدّلات الخصوبة عند المسيحيّين وارتفاع معدّلات الهجرة بسبب الشعور المتزايد بالغربة والقلق على المصير. ويولي متري، في حديثه عن الهجرة، العوامل الاقتصاديّة أهمّيّة كبرى. فالهجرة المسيحيّة في بداية القرن العشرين لا يمكن فصلها عن تزايد المسيحيّين العدديّ وعن تحسّن أوضاعهم المعيشيّة. أمّا هجرة الستينيّات من القرن المنصرم “فإنّها تغذّت بدورها من الرغبة في الارتقاء الاقتصاديّ”.
قضيّة المسيحيّين العرب تتأسّس على مدى رؤيتهم لدورهم في هذا الشرق العزيز. فدور المسيحيّين الشرقيّين ينطلق أوّلاً من إيمانهم بأهمّيّة حضورهم في هذا الشرق، ومن تكلّمهم بلغة القرآن الكريم، كتاب المسلمين. ونقول بأهمّيّة حضورهم ذلك أنّ الحضور هو غير الوجود، فإمكانيّة الوجود من دون الحضور موجودة. ويجب، تاليًا، ألاّ يكون وجود المسيحيّين في الشرق العربيّ مجرّد تراكم أعداد، أو متاحف، أو ذكريات، أو تقاليد. عليهم أن يكونوا فاعلين في حياة أوطانهم من خلال انخراطهم في قضايا بلادهم وشعوبهم. وما مشاركة الأقباط في الانتفاضة المصريّة، على الرغم من تأييد بطريركهم للرئيس السابق، سوى بداية واعدة عسى أن تتكلّل بدستور عصريّ أركانه المساواة والحرّيّة وحقوق الإنسان.
مع تصاعد الأصوليّات والتطرّف الدينيّ، لا بدّ للمسلمين والمسيحيّين العرب من أن يبدأوا بالتفكير “معًا” في تعاقد عربيّ جديد، يقوم على المواطنة والمساواة والحرّيّة والديموقراطيّة. فالقلق المسيحيّ (والإسلاميّ) يتصاعد من تنامي التطرّف الدينيّ الذي يتوسّل العنف سبيلاً لتحقيق أهدافه. وعلى هذا الصعيد، المسيحيّون هم شركاء كاملون للمسلمين في بناء المستقبل. لكن إلى اليوم، ليس ثمّة مشروع متكامل يجعل المواطنين العرب، إلى أيّ قطر انتموا، مطمئنّين إلى ما سيكون عليه غدُهم. من هنا نبدأ.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 6 آذار 2011