اتّخذت الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة في مصر قرارًا بإلغاء حفل الإفطار السنويّ التي كانت تقيمه في شهر رمضان من كلّ عام تحت عنوان “الوحدة الوطنيّة”، والذي كان يشارك فيه الإمام شيخ الأزهر ومفتي الديار المصريّة والممثّلون الرسميّون للدولة. أمّا أسباب الإلغاء المعلنة فهي “الظروف الاقتصاديّة الراهنة التي تمرّ بها البلاد والصعبة على المواطن البسيط، بالإضافة إلى احترام مشاعر أسر الشهداء” الذين سقطوا في الانفجار الذي استهدف كنيسة القدّيسين في الإسكندريّة يوم رأس السنة الجارية، “فنحن في حالة حزن وحداد ليس فقط لضياع أرواحهم وإنّما لعدم تقديم الجناة المتسبّبين بالحادث للعدالة”.
وفي السياق نفسه قال مصدر كنسيّ لصحيفة “الوفد” المصريّة: “إنّ حلّ مشكلات الوحدة الوطنيّة في مصر لن يأتي بالدعوة إلى تناول الطعام على موائد إفطار الوحدة الوطنيّة والتي كان يرسمها النظام السابق لتجميل صورته، وإنّما حلّها يكون باتّخاذ خطوات إيجابيّة نحو حلّ المشكلة نفسها بسنّ قانون موحّد لدُور العبادة وتقديم المتورّطين في أحداث الفتنة الطائفيّة إلى العدالة”.
لقد قامت الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، بإلغائها حفل الإفطار، بخطوة شجاعة لوضع الأمور في نصابها. فالناس باتت لا تصدّق هذه المناسبات الرسميّة التي يتوافد إليها كبار القوم من رجال دين ورسميّين في المواسم، ثمّ يتفرّقون شتتًا وكأنّ شيئًا لم يكن. باتت هذه المناسبات بلا معنى ولا مضمون جدّيّ يضيف جديدًا إلى تحسين العلاقات المسيحيّة-الإسلاميّة. فاختزال الحوار إلى مجرّد “صورة تذكاريّة تجمع رجالاً (دون النساء) بثياب مزركشة بمختلف الألوان” يجعله بلا جدوى وبلا ثمار حقيقيّة.
وتأتي الإشارة إلى المطالبة بسنّ قوانين موحّدة لدور العبادة في إطار الأمور المجديّة التي تبني العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة على أساس المواطنة الكاملة لكلّ المصريّين بدون امتيازات دينيّة أو مذهبيّة لجماعة على حساب جماعة أخرى. غير أنّ ثمّة طريق طويلة قبل الوصول إلى هذا الهدف السامي، إلى الدولة المدنيّة العادلة. فالأزهر أكّد، في وثيقته عن الدولة المنشودة في مصر، والتي أصدرها منذ نحو شهرين، مطالبته بـ”أن تكون المبادئ الكلّيّة للشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساسيّ للتشريع”. كما تشترط الوثيقة ذاتها أن تكون سلطة التشريع المنوطة بنواب الشعب متوافقة “مع المفهوم الإسلاميّ الصحيح”، هذا المفهوم الصحيح الذي يحدّده الأزهر دون سواه.
هذه الشروط الأزهريّة تجعل كلّ سعي إلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المصريّين مجرّد أضغاث أحلام وقبض ريح. فما جدوى الحوارات واللقاءات والإفطارات وتبادل المعايدات إذا كانت الأمور ما تزال تسير سيرها القديم؟ ما جدوى تلك النشاطات إذا لم تفضِ إلى عدم التمييز بين المواطنين في مسائل تمسّ حقوق الإنسان الطبيعيّة بالحرّيّة والمساواة والعدالة والعيش الكريم؟
الإفطار الحقيقيّ والعيد الحقيقيّ يحصلان حين يشعر كلّ مواطن في المجتمع الواحد بأنّه مواطن كامل، بصرف النظر عن معتقده وإيمانه وتراثه الحيّ الذي وصله أبًا عن جدّ. متى سيكون العيد على مثال ما قرّرته الآية القرآنيّة القائلة: “قال عيسى ابن مريم: اللّهم ربَّنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرازقين” (سورة المائدة، 114)؟ العيد الحقيقيّ يكون حين يجتمع المسلمون والمسيحيّون، أخوةً متساوين أمام الله وبعضهم إزاء بعض، إلى المائدة الواحدة المنزّلة عليهم من السماء. والرجاء يبقى أن تتحقّق هذه الوليمة في زمان جهادنا على الأرض قبل حلول الآخرة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،3 آب 2011