لا شكّ في أنّ ثمّة دعاة للعلمانيّة وسيادة الدولة المدنيّة وحقوق الإنسان، من شيوعيّين وقوميّين واشتراكيّين ومواطنين بلا أيّ انتماء إيديولوجيّ أو حزبيّ، قد اندرجوا في إطار معارضة النظام القائم في سوريا. وهؤلاء يسعون إلى دولة عصريّة تسودها القوانين والمؤسّسات بحيث يتساوى جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.
بيد أنّه يجانب الصواب ذاك الذي لا يرى العوامل الطائفيّة والمذهبيّة التي تزكي ما يجري اليوم من أحداث دمويّة وأعمال قمع وترهيب. فتلك العوامل كامنة خلف الصراعات، وعمرها من عمر نشوء الدين الإسلاميّ وتشتّته مذاهب وفرقًا، ومَن ينكر هذا الأمر كمَن ينكر سطوع الشمس في ظهيرة قائظة من شهر آب اللهّاب.
المجتمع السوريّ، ككلّ المجتمعات العربيّة ومعظم المجتمعات الإسلاميّة، تؤدّي فيه العصبيّة الدينيّة والمذهبيّة دورًا أساسيًّا في تشكيل الهويّة على حساب العصبيّة الوطنيّة الجامعة. وتطغى الهويّة الجماعيّة، القبَليّة أو العشائريّة أو الدينيّة أو المذهبيّة أو الطائفيّة، على الهويّة الفرديّة القائمة على المواطنة المجرّدة من أيّ انتماء قبْليّ يتوارثه المرء بالولادة ويتنامى بالتربية السائدة في البيئة الاجتماعيّة أو الدينيّة المحيطة.
المجتمع السوريّ لا يختلف عمّا يجاوره من مجتمعات عربيّة. فالصراع الطائفيّ أو المذهبيّ حاضر في لبنان والعراق والبحرين، وفي كلّ مجتمع متعدّد دينيًّا. وثمّة أطراف عديدة داخليّة وخارجيّة تغذّي هذا الشعور المذهبيّ، ولا سيّما بين السنّة والشيعة بفرقها كافّة، في سبيل تحقيق مصالحها وغاياتها. لذلك، يكون إنكار العوامل المذهبيّة في شحن الناس بعضهم ضدّ بعض من قبيل إنكار الحقيقة البديهيّة.
لا بدّ، هنا، من الإشارة إلى مأزق الأقلّيّات المذهبيّة والطائفيّة في هذه المجتمعات المتعدّدة. فحيث تحكم إحدى الأقلّيّات يزداد شعور الأكثريّة بالغبن والاضطهاد، إذ ترى الأكثريّة بأنّها الأحقّ بالاستحواذ بالحكم. وحيث تحكم الأكثريّة ترى الأقلّيّات نفسها مقصيّة كلّيًّا عن المشاركة في الحكم. ويأتي عامل التخويف المتبادل ليفاقم المشكلة ممّا يؤدّي إلى سدّ آفاق الحلّ والدخول في النفق المعتم.
تخشى الأقلّيّات على مصيرها من طغيان الأكثريّة، وبخاصّة إذا كانت هذه الأكثريّة يغلب عليها الطابع الدينيّ أو المذهبيّ. فالدولة الدينيّة، كما تبيّن الخبرة التاريخيّة عبر قرون عدّة، قد عزلت الأقلّيّات في مجتمعات مغلقة خوفًا من الاندثار والإبادة بناءً على فتاوى شهيرة أصدرها فقهاء كبار ومراجع دينيّة معتبرة تبيح قتل أبنائها وسفك دمهم. فيأتي مَن يستغلّ هذه الذاكرة الأليمة كي يستنهض الأقلّيّات عبر إقناعها أنّ الصراع هو صراع من أجل البقاء، هو صراع حياة أو موت.
من النافل القول إنّ الدولة الاستبداديّة لن تحمي الأقلّيّات ولن تكون لهم حصنًا دائمًا. فهذه الدولة لن تبقى إلى الأبد، وموازين القوى تتغيّر وتتبدّل مع تبدّل المصالح والأهواء. كما أنّ الدولة الدينيّة ليست حلاًّ عادلاً، فغير المنتمين إلى الدين الحاكم سيشعرون بالقهر والحرمان من أبسط حقوق الإنسان المعاصر.
لكنّ ذلك لا يعني البتّة ثني الساعين إلى دولة مدنيّة عصريّة عن استمرار جهودهم إلى تحقيق ما يصبون إليه. فالدولة الاستبداديّة المهيمنة على البلاد والعباد أو الدولة الدينيّة، إذا تحقّقت يومًا ما، كلتاهما نقيض ما يحلمون به. عسى أن نصحو يومًا فنجد الدولة المدنيّة القائمة على العدل والمساواة وحقوق الإنسان هي وحدها السائدة في بقاعنا المباركة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،10 آب 2011