عِبر من فيلم غير عاديّ

الأب جورج مسّوح Wednesday October 19, 2011 146

ليس عاديًّا فيلم “وهلّأ لوين؟” للمخرجة نادين لبكي. ليس عاديًّا لأنّه لم يتناول مسألة العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة كما يتناولها أهل الحوارات الدينيّة والقمم الروحيّة. ليس فيه مجاملات على الطريقة اللبنانيّة المعهودة، وليس فيه تحسينات لما هو قبيح أصلاً. هو يعرض لهذه العلاقات بفجاجتها الفاقعة من دون تكاذب ولا باطنيّة.

أوّل ما لفتنا في هذا الفيلم الذي يعرض لأحوال قرية لبنانيّة مختلطة في خضمّ الحرب الأهليّة ابتعاده عن الخطابة الوطنيّة ذات اللغة الخشبيّة الطنّانة، وعن الزجليّات الراطنة بجمال الطبيعة اللبنانيّة الأخّاذ، وعن الافتخار بالأرز وتزاوج البحر والجبل… ما لفتنا حقًّا هو التركيز على الحياة اليوميّة والتبادل الإنسانيّ الذي يجمع أبناء هذه القرية، والذي هو أقوى من التغنّي بشعارات كبرى أو برموز مجرّدة قد لا تعني شيئًا على الصعيد العلاقات الإنسانيّة ما بين بشر المجتمع الواحد.

ما أراد الفيلم أن يرينا إيّاه هو أنّ احترام الجيرة والحياة الواحدة هي الضمانة لعدم نشوب الحروب الأهليّة. فكيف يمكن لجارين يعيشان في وئام وسلام ويتبادلان الخبز والملح أن يصبحا عدوّين بين ليلة وضحاها لمجرّد استغلال أصحاب الفتن العصبيّات الدينيّة والطائفيّة، فتطغى الشهوة على العقل، والحيوانيّة على الإنسانيّة؟ وهنا نتذكر قول المعلّم بطرس البستاني بعد مجازر 1860 حين اعتبر، في نشرته “نفير سورية”، أنّ الحرب الأهليّة “تنافي كلّ المنافاة أكرم وألطف وأسمى وأشرف الحقوق والحاسّيّات الإنسانيّة كحقوق الجيرة والأخوّة الوطنيّة والشكر والموادّة والألفة المنغرسة نحو الجار وابن الوطن في مَن استوفى حقوق المروءة والإنسانيّة”.

يعلن الفيلم يأسه من الرجال ونقمته عليهم، فهم صنّاع الحرب ووقودها. هم ضحاياها ليس أكثر. تغيب لغة الشهادة، وتحضر لغة العبثيّة وعدم الجدوى. فنسيم الشاب الوسيم الذي ذهب برصاصة طائشة قدّمه الفيلم ضحيةً، ولم يتمّ التعامل معه شهيدًا. هو ذهب عبثًا. قتله التراشق العشوائيّ. الحياة كانت تليق به كما تليق بكلّ مخلوق. وهل ثمّة قضيّة كانت تستوجب سقوط شهداء ثمنًا لعصبيّات تافهة؟ وأليس الإنسان الضحيّة بمقام الإنسان الشهيد، بل بمقام أسمى؟

الرجال يصنعون الحروب، والنساء يصنعن السلام. هذا الدرس الأهمّ الذي يخرج مزوّدًا به المشاهد. النساء، وعلى رأسهنّ الأمّهات، هنّ اللواتي يسعين بطرق شتّى، منها الطريفة ومنها الحزينة، كي لا تصل القرية إلى التباغض والتقاتل. الأمّهات، واهبات الحياة، لا يرغبنّ في رؤية أبنائهن وأزواجهنّ وأقربائهن يموتون في ريعان الشباب. هذا ينافي وظيفتهنّ الطبيعيّة بإنجاب الأولاد لا بدفنهم، وبمنح الحياة لا بسلبها، بالحبّ المجّانيّ لا بالحقد الدفين.

أحسنت نادين لبكي بإنهاء الفيلم على الشكل الذي انتهى به. فنساء القرية اتّفقن على أن تتخلّى كلّ منهنّ عن ديانتها لتعتنق الديانة الأخرى. وكأنّ الفيلم شاء أن يقول إنّ الانتماء الدينيّ نرثه من آبائنا وأجدادنا، وليس لنا فضل في اختياره. الانتماء الدينيّ شأن طبيعيّ يجب ألاّ يكون دافعًا للتعصّب بل للتآخي. لذلك، الصدفة جعلتنا مسلمين أو مسيحيّين، ولكانت أيضًا قلبت الأدوار وجعلت المسلم مسيحيًّا والمسيحيّ مسلمًا. فهل ثمّة أمر تافه يدفعنا إلى التنابذ والتقاتل أكثر من هذه الصدفة البيولوجيّة؟

في زمن عزّ فيه الرجال الذين لا ينفكّون يستعيدون الحروب تلو الحروب، قد يكون حان دور النساء ليزرعن البسمة والرجاء في أرجاء هذه البرّيّة الجرداء. شكرًا نادين لبكي.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”،19 تشرين الأول 2011

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share