صوم الميلاد

mjoa Friday December 16, 2011 379

الصوم في الكنيسة الأرثوذكسية محور كل عبادة فردية أو جماعية، أما بالنسبة للفرد فالآباء قالوا: ”إذا أردت أن تنجح في أية فضيلة روحانية فابدأ جهادك بالصوم“؛ لأن الصوم هو أول وأقوى عمل لتحويل الطاقة الجسدية إلى طاقة روحانية، لذلك أصبح الوسيلة الفعَّالة والناجعة لتزكية كل سيرة روحانية. فبقدر ما يعتاد الإنسان الصوم، بقدر ما تستقر نفسه في علاقتها مع الله وتنكشف أمامه أسرار الحياة.

ولكن يوجد فرق كبير بين صوم نمارسه مؤقَّتاً من أجل ظروف خاصة نجتازها، وبين صوم نمارسه بدون أسباب، حبًّا في الصوم ذاته
كوسيلة لسمو الروح وتقرُّبها من الله

. فممارسة الصوم لأسباب خاصة لها نتائج طيبة، ولكن لا ترفع درجة الروح إلى مستوى ثابت في علاقتها مع الله، أما الصوم حبّاً في الله فإنه يصير كجناحين يرفعان النفس لتُحلِّق دائماً في جو الله.

أما الصوم بالنسبة للكنيسة كجماعة فهو محاولة ناجحة لجعل الصوم بدون أسباب شخصية، فالكنيسة تحدِّد أصواماً عامة لمناسبات عامة يصوم فيها كل الشعب تحت نظام موحَّد، حيث يحس كل إنسان أنه يقدِّم صومه مع صوم الجماعة ليحتفظ بكيانه متحداً معها كثمن، أو بالحري كعربون لعضويته في الكنيسة الحيَّة العاملة والمنتصرة بآن واحد. أي أن الصوم الجماعي يـوحِّد الأفراد كجسم واحد ويقرِّبهم إلى الله كعروس مزيَّنة لعريسها.

فإذا كان الصوم الفردي الذي يكون بدون أسباب شخصية يستطيع أن يرفع مستوى النفس ويُقرِّبها من الله لتستقر في سلامها وفرحها معه، فالصوم الجماعي الذي تحدِّده الكنيسة لكل الشعب يستطيع أن يرفع الكنيسة كلها إلى مستوى روحي عالٍ ويُقرِّبها من الله ويُدخلها في سلام دائم معه، هذا إذا أقبل الشعب كله على الصوم بهذه النيَّة وبدون تململ.

والكنيسة في تحديدها لمواسم الصوم ومدَّته اعتمدت على أمرين أساسيين:
الأول: المناسبة التي أوحت إليها الصوم في حد ذاتها،
الثاني: حاجة الكنيسة دائماً وباستمرار إلى الصوم في حد ذاته.

وهذان الأمران هما في حقيقتهما دافعان عظيمان ومهمان جدّاً للصوم يحويان جوهر العبادة كله.

أما المناسبة التي أوحت بالصوم للكنيسة، فهي دائماً نابعة من سر الخلاص الذي أكمله لنا المسيح، وهي إما ميلاده أو موته أو قيامته، أو حلول الروح القدس وبدء كرازة الرسل باسمه في العالم كله، أو تقييم الدور الذي أكملته العذراء القديسة مريم في قبولها سر الخلاص الإلهي الذي كان مخفياً فيها والشهادة له حتى يوم الخمسين إلى أن حلَّ الروح القدس واضطلع هو بالشهادة من بعدها إلى نهاية الزمن.

والعلاقة التي تربط كلاًّ من هذه المناسبات بالصوم وتحتِّمه، هي علاقة روحية سرية غاية في الأهمية، إذ يستحيل أن ندخل مثلاً في سر الميلاد الذي هو استعلان الله في الجسد الإنساني، إذا لم نسمُ بأفكارنا وحواسنا الجسدية إلى مستوى إلهي. وقد قلنا سابقاً إن الصوم هو الوسيلة العُظمى لتحويل الطاقة الجسدية فكرياً وعاطفياً إلى طاقة روحانية. إذن، فلا مناص من الصوم إن كنا نريد أن نستعلن روحياً سر الخلاص القائم والمُعلَن في تجسُّد ابن الله أي في ميلاد المسيح.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share