قد يُثير هذا المقال شيئاً من الاستغراب، كيف أنه في نشرةٍ كنسية لها أبعادها الدينيّة بمواضيعها وأهدافها يُكتب موضوعٌ جديد لم يسبق أن طُرح قبلُ فيها! والجواب على هذا التساؤل هو أن الشخص الذي سوف يُكتب عنهُ قد تخطّى المهنة وأصبح قدوةً يُحتذى بها لشبيبتنا وأجيالنا، وأثبت من خلال حياتهِ أن الإنسانَ قادرٌ أن يعكس “صورة الله” فيه، وأن يكون أيقونةً له، تُجسّد صفاءها ورهبتها
.
“جارة القمر”- كما سُمّيت- غنّت للوطن، للحبّ، للطفولة، وللإنسان! مُستعيدةً زمناّ بعيداّ كلّ البعد عن ضوضاء هذا العصر وتشويشاتهِ. إنها فيروز التي كلّما أطلّت خشع الجالسون لصفائها، ورزانتها، وأجلّوا تعبها الدؤوب وإخلاصها لعملها! هذا ليس مديحاً إنها الحقيقة. فحبذا لو نتعب نحن المسيحيّين قليلاً ليكون آداؤنا أفضل وصدقيّتنا المنقولة للناس أوضح!
فيروز ابنة هذا العصر، فضيلتها أنها استعملت النعمة المُعطاة لها عن طريق الفن الأصيل، مُحوّلةً إيّاه رسالةً للسلام وللوطن، للإنسان وللحب، لأنها تُؤمن إيماناً عميقاً بإله السلام والحب!
تاريخ الكنيسة يشهدُ لقدّيسين عاشوا في وسط هذا العالم بعيدين عن كلِّ مُغرِياتهِ وميولهِ، ساخرين من أضاليل هذا الدهر وألاعيبه محوّلين إيّاه إلى حالةٍ سماويّة وأنشودةً للدهر الآتي.
هذه هي فيروز التي تُعلّمنا أن الإنسان الصادق الصدوق الرزين قادرٌ أن يعكس صفاءه الداخلي إلى الذين حواليهِ، ولئن عبر طريق الفن والمسرح. من منّا لا يعرف كيف هي أجواء الفن بشكلٍ عام؟! لكن، وكأن السّيدة فيروز أعادتهُ إلى حالته الأولى، فنّاً راقياً و تسبيحاً لله الخالق والمُبدع، فهو الفنّان الأوّل والمهندس الأوّل والطبيب الأوّل، وكل شيء على هذه البسيطة وُجد لتسبيح اسمه القدّوس، لأننا من عجنتهِ، ويُريدنا أن نكون على “مثاله وصورته” مُبدعين خلاّقين!
فيروز استخدمت النعمة المُعطاة لها من لدن الرّب لتمجيدهِ، وجعل من يسمعها أو يحضرها ينتقلُ من عالمٍ أثقلتهُ المتاعب والصعاب إلى دُنيا الأمل والطفولة البريئة! فيروز باتت للناس أكثر من كائن، بل صورة الذات البشريّة التي وهبها بارؤها كثيراً، هي الصّوت الذي يُضيء الظّلمة ويُعلن مع كلّ إطلالة لها قولها: “يا عالم بعد في شي حلو بها الدّني”.
فيروز نقلتنا في أمسية “كانونيّة” باردة إلى أجواءٍ دافئة، فيها الحنين إلى الماضي والشّوق إلى مُستقبلٍ فيه الأمل، عبر موهبتها التي هي الفن. فهي من جعلت لهُ رهبةً، وبرهنت أن الإنسان قادرٌ أن يُسبّحَ من خلقهُ، في أيَّا تكُنْ مهنتُه. فيروز تعكس صورة الإنسان المُتجدّد والذي لا يشحبُ مع الزّمن بل يبقى في تألقٍ دائم.
هذه هي المسيحيّة، وهذا ما يُريدنا الله أن نكون عليهِ، أن نبقى في تجدّد دائمٍ، لأن المسيحي ليس أسير ماضيه، بل هو يتخطّاه ليعيش حاضره، ويتوق ويسمو إلى مستقبلٍ حيث الرّجاء الموعود، حيث ملكوت الله، الذي يعيشه منذ الآن ويُكملهُ عندما يتحرّر من أربطةِ هذا العالم.
فيروز هي من قالت إنها “تكرهُ الحرب، والإنسان عليهِ أن يعيش دائماً بسلامٍ وفرحٍ، لأن الحياة قصيرة”. حبّذا أن نعي فعلاً أنّ هذه الدنيا عابرة، وأننا عابرون فيها، عند ذاك نُمضي ما تبقّى من هذا العمر بسلامٍ لأننا ” مشوار جينا عَ الدّني مشوار”. والسلام.