أرثوذكسيّة أم أرثوذكسيّة متهوّدة ؟

mjoa Wednesday December 28, 2011 191

تشهد الساحة المسيحيّة في لبنان ارتباكات وتناقضات على مستوى الخطاب والسلوك إزاء ما يجري في لبنان وفي العالم العربيّ من تغيّرات وتبدّلات. ففي الوقت الذي يدعو فيه القادة الدينيّون المسيحيّون أتباعهم إلى التضامن مع قضايا المنطقة والانفتاح على المسلمين ضمن إطار المواطنة والمساواة، نراهم في لبنان يذهبون إلى الانغلاق على ذواتهم، باحثين عن لملمة أنفسهم وتجميعها في غيتوات مقفلة.

فهل الروم الأرثوذكس في بلادنا، أو الموارنة أو سواهم من أبناء الملل والنحل الأخرى، يشكّلون أمّة تامّة تتميّز عن غيرها من أهل هذه البلاد بخصائص وميزات تجعلها أمّة فريدة من نوعها؟  أم هم جزء من أمّة يؤلّفون مع شركائهم في الأرض والوطن نسيجًا واحدًا؟ هل هم لون واحد منفرد في ذاته؟ أم هم لون من الألوان العديدة التي تضفي جمالاً ورونقًا على هذا النسيج؟ هل يكون اللون الواحد جميلاً، أم أنّ جماله لا يبرز إلاّ ضمن اللوحة الواحدة المتنوّعة الألوان؟

لم يكن المسيحيّون، والروم الأرثوذكس ضمنًا، في يوم من الأيّام أمّة واحدة في الإطار السياسيّ أو الاجتماعيّ. هم أمّة واحدة في الإطار الكنسيّ، هم “أمّة مقدّسة” كما قال القدّيس بطرس الرسول. لكنّهم لم يكونوا في يوم من الأيّام أمّة دينيّة أو قوميّة دينيّة، ولم يسعوا يومًا إلى إنشاء وطن قوميّ لهم على غرار اليهود الذين يتباهون بأنّهم ينتمون إلى قوميّة دينيّة يغلب عليه الطابع الدينيّ، طابع “شعب الله المختار”.
في بلادنا، حمل المسيحيّون لواء الشراكة في المواطنة مع المسلمين، ولم يكن هاجس القوميّة أو الطائفيّة ليطغى على روح الشركة مع مواطنيهم من المسلمين. فمن “الجامعة العثمانيّة” إلى “القوميّة العربيّة” أو “القوميّة السوريّة” أو “المواطنة اللبنانيّة”، نجد أنّ المسيحيّين قد تبنّوها لأنّها تجمعهم مع المسلمين ولا تفرّقهم. ولنا في مواقف البطريرك الأرثوذكسيّ غريغوريوس الرابع حدّاد (+1928) المثال الساطع. فقد أيّد الجامعة العثمانيّة، ثمّ أيّد لاحقًا الحركة العربيّة، و”كان الأمر عنده ليس خيارًا أيديولوجياً كما هي الحال عند المثقّفين العلمانيّين”، وفق الدكتور طارق متري. فالبطريرك حدّاد قال في خطاب لمناسبة صدور قانون للتجنيد (1908) تعادل فيه المسيحيّون مع المسلمين في السلطنة: “الحمد لله الذي جمعنا في الإنسانيّة والوطنيّة ووحّدنا في الجامعة العثمانيّة”. ثمّ هو نفسه أيّد الحركة العربيّة، ولم يكن في ذلك تناقض مع موقفه السابق، لأنّ الأساس الذي بنى عليه موقفيه إنّما هو الشركة مع المسلمين وليس التنازع.

عندما سعى اليهود إلى وطن قوميّ لهم على أرض فلسطين، لم يسعَ الأرثوذكس إلى وطن خاصّ بهم، بل انخرطوا في خيارات قوميّة ووطنيّة وعلمانيّة جامعة، ورفضوا أيّ تقوقع طائفيّ أو دينيّ. أليست العودة إلى الخيارات الطائفيّة خيانة لفكر المسيح نفسه الذي قضى على القوميّة الدينيّة اليهوديّة، فقتله اليهود لأنّهم اعتبروه خطرًا على الأمّة، أمّتهم؟ ألا يقتل هؤلاء المسيح ثانية بارتدادهم إلى الجدران المغلقة للطائفة، إلى يهوديّة مقنّعة بأرثوذكسيّة من هذا العالم؟ ألا يخونون مبدأ المسيح القائل: “أنتم في العالم ولستم من العالم”؟
وما يثير السخرية حقًّا هو أنّ بعض المتشدّقين بالمواطنة واللاطائفيّة والعلمانيّة والقوميّة العربيّة لا يتورّعون عن تأييد مشاريع تقسيميّة تقوم على الطائفيّة. شتاء وصيف على سطح واحد. كن حارًّا أو باردًا، أمّا الفاتر فسيلفظه المسيح من فمه.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share