الدنيا في كل مكان مقسومة الى أذكياء وأغبياء. يولد الانسان ذا فطنة أو هي شبه غائبة ولا حيلة لنا في ذلك. وتنمو المواهب بالتربية ولكن من أُعطي القليل لا يمكن ان تطلب منه الكثير وليس عنده في ذلك مشكلة لأنه لا يعرف انه لم يتلقَّ الحدّ الأدنى من الفهم لينتج ويبدع. فقط الذي عنده الكثير يشعر بحاجته الى الأكثر وهو وحده في دوام السعي أي في دوام التعب اذ يحتسب انه قادر على ابتلاع المعرفة في توقه الى إدخال الكون الى رأسه.
غير ان اهمال الدراسة والكسل يدمّران المعرفة ولو بقي الالتماع الأساسي. تسأل عن شيء ولا تجيب اذا جفّت فيك الينابيع. المعرفة شرطها النسك أي انها ذات بعد خلقي فيه الكثير من الجهد. قوة التحصيل الى جانب الفرح تؤتاها من غيرتك على ضعفاء المواهب لترفعهم الى مستوى أعلى ما قدروا. أحياناً كثيرة يصطدمون بفراغ أو جمود ويبقى التواصل عسيراً بين أصحاب المستويات المتباينة فتبقى القسمة بين من ورثوا المعرفة الكبيرة والذين ورثوا القليل اذ الإرث جيني كما بان لنا.
قد تكون الوزنات مطمورة وهي قابلة النمو وصاحبها لا يعرف لكن المجتمع الذي حولنا قامع أحياناً ولا يستنهضنا اذ لا يحلو له الذكاء الكبير. وتبقى الشرائح العقلية منفصلة حتى الاختصام أو الاستعلاء أو الكراهية والجهل يثير عند المدركين عصبيّة مستكبرة ولا رجاء في الاكتساب عند أهل الضحالة وكاد يكفيهم بصيص نور.
دائما هناك سر جفاء عند من كانت له في العقل حصة كبيرة وسر حزن عند من ضعفت حصّته اذا ذاق استكبار أقوياء المعرفة. غير ان العظام الكبار لا يستكبرون وقد دعاهم نصيبهم ان يعرفوا ما يوزعون ولو بأمل قليل.
الأذكياء أيضاً على درجات والأغبياء على درجات. الذين يغيرون وجه التاريخ عندهم من الفطنة مقدار عجيب التصور لكنهم جميعاً فريق واحد يفهم افراده بعضهم بعضاً إلا أن بعضا يحتكرون المعرفة العليا ويعترض بين هؤلاء ومن دونهم جدار بسبب من الاختصاص. الاختصاص يولّد انغلاقا لا مفرّ منه. خذ الأطباء. كل مختص بينهم يرفض التكلّم على اختصاص آخر لأن الطبقات العليا من المعرفة لا تتداخل. من هنا التواصل بين الأذكياء أنفسهم يضيق جداً وأنت مستسلم لأهل المعرفة العالية جداً وتتباين هنا مفردات العلوم المستقلة وتبقى أنت على فرط علمك خارج حلبة العارفين.
وقد لا يرى من درس كثيراً ما يجب ان يراه ليكون انساناً سوياً فالانسان ليس كله علم. هل يبقى للعالم قلب؟ هذا يحصل مرات عديدة. فعلى سبيل المثال الكثير من العلماء مؤمنون والكثير غير مؤمن. وعندي ان خط العلم وخط الايمان متوازيان وليس لنا ان ندعم الايمان بالعلم. فالعلم متغير والنصوص الإلهية يتغيّر فهمها اذ تفسيرها نفسه خاضع لعلوم اللغة والآثار والتاريخ.
أما جهل الأميين للدين فقليل وهكذا ننجر الى مجاورة الأميين ان كنا حرصاء على الايمان. ولكن ان حرصنا على استقلال المجالين يبقى الايمان مكانه والجهل مكانه والمعرفة العلمية مكانها والإنسان منفتح على الحقيقة السماوية أو غير منفتح حتى ينزل الله العلم به علينا برحمته الواسعة.
ما يخيفني في دعم الايمان بالعلم هو اني أرى في هذا الموقف هزالة الايمان الذي لا يحتاج الى قوة خارجة عن ذاته. كذلك من يرى من المدافعين عن العلم انه مكتف بذاته يقوّلونه ما ليس فيه لأن العلم لا يوصلك الى الايمان أو الى الجحود اذ الايمان والجحود خارجان كلياً عن نطاق العلم.
لذلك نحتاج الى ذكاء كبير لئلا يضللنا الذكاء القليل وهو وحده يذهب في كل الاتجاهات ويخلط الأشياء في ما بينها.
ان لم يكن من لقاء على صعيد العقل بين ممتازي الفكر وضعافه يجب ان يلتقوا بما هو أعمق من الفكر وأعمق من الفكر المحبة. ولست أشير هنا الى الوحدة المجتمعية بل الى وحدة القلوب. ففي الاجتماع لكل من الناس ما يقدّمه للآخرين والبناء المجتمعي يقوم به المواطنون كلّ حسب قدرته أو مواهبه.
المهم ان يرحم ذو العقل الثاقب الانسان العادي وان يتقبّله شريكاً له في مكانته. البناء لا يقوم بالمهندس وحده. العمال أساسيون كالمهندس.
يجب أن يفهم العارف كثيراً ان العارف قليلاً له عائلة وانه قادر على عطاء القلب وان اتحاد القلوب هو الذي يبني الناس. ذلك ان الفضيلة ليست ملكاً لفئة أو طبقة ثقافية. الفضيلة هي حال الفرد والجماعة معاً. والضعاف على مستوى الدماغ لهم ان يصبحوا قديسين ومضمار القداسة لا يتطلب حجماً دماغياً رهيباً. وليس المهم ان تجمّل الحس الخلقي بالكلمات ولكن المهم ان تكون انت كبير الروحانية.
جميل هذا المنظر في هذا الدين أو ذاك، ان المتفلسفين والجهال يصلّون معا ولهم الكرامة الواحدة ويحاول الكل ان يتواضعوا ويتحدوا بطاعة الله واستماع الكلمة الحلوة التي ترفع الكل الى لقاء الرب ولقاء كل الإخوة على مستوياتهم. ان الله يتمجّد بالفاهمين وغير الفاهمين.