يخطئ مَن يظنّ أنّ كتاب “رؤيا يوحنّا” يتنبّأ عن نهاية الأزمنة. ويخطئ مَن يقرأه قراءة حرفيّة، كأنّه يقرأ تحقيقاً صحافيّاً عن حدث جرى، أو كأنّه يشاهد شريطاً وثائقيّاً… كتاب “رؤيا يوحنّا” لا يقدّم لقارئه صورة عن نهاية العالم، بل يتحدّث بلغة رمزيّة عن مسيحيّي عصره الذين عانوا الاضطهادات، وتالياً عن كلّ عصر مماثل.
لم يكن هاجس كاتب الرؤيا أن يلقّن قارئه علامات نهاية الأزمنة، بل أن يحضّه على الثبات في الإيمان وعدم الارتداد أمام الدولة الرومانيّة وحكّامها الذين عادوا المسيحيّين واضطهدوهم ومارسوا تجاههم أشنع التعذيبات كي ينكروا إيمانهم، وكي يقدّموا الولاء والعبادة لهم لا لإلههم. ويسعنا القول إنّ الرؤيا نصّ عظيم في مديح الشهادة والاستشهاد وعدم التخاذل مهما قست الظروف.
كتاب الرؤيا دوّن في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ إبّان حكم الإمبراطور دوميسيانوس الذي أطلق على نفسه لقب “السيّد والإله”. فأضحت عبادة الإمبراطور والسجود له العلامتين المميّزتين للمواطن الصالح، وتالياً الوسيلة الوحيدة لممارسة بعض الوظائف أو القيام بالأعمال التجاريّة. وهكذا، وجد المسيحيّون أنفسهم أمام خيار مرّ لا مساومة فيه: إمّا أن يؤدّوا فروض العبادة لقيصر، وإمّا أن يرفضوا هذه الوثنيّة فيعيشون متّهَمين بعصيان الدولة ويتهيّأون للاستشهاد بين أنياب الأسود أو بقطع رؤوسهم بالسيف…
كتاب الرؤيا هو كتاب الثورة ضدّ السلطات الغاشمة. لم يهادن المسيحيّون الأباطرة والجلاّدين، بل واجههوهم بصلابة الإيمان والوفاء لتعاليم السيّد المسيح ومقتضيات الإنجيل. لم يمارسوا التقيّة للحفاظ على أنفسهم،لم يكن لديهم ظاهر وباطن. جاهروا بإيمانهم في الميادين والشوارع وفي ساحات الاستشهاد، ولم يتراجعوا عن اقتناعاتهم. بقوا مخلصين لربّهم وسيّدهم إلى آخر رمق، لأنّهم لم يفقدوا الرجاء بالخلاص الآتي.
كتاب الرؤيا كتاب ثورويّ لأنّه لم يتوانَ عن تشبيه السلطة القائمة بالوحش، وعن تشبيه الإمبراطور-الإله بالشيطان. فكاتب الرؤيا يقول: “وهنا لا بدّ من الحكمة؛ مَن كان ذكيّاً فليحسب عدد اسم الوحش. هو عدد اسم إنسان وعدده 666 (أو في مخطوطات أخرى 616)” (الرؤيا 13، 18). يدعو كاتب الرؤيا قارئه إلى اكتشاف الرمز الكامن خلف الرقم 666 (أو 616). فإذا استعملنا حساب الجمّل، أي أنّ كلّ حرف من حروف الأبجديّة العبريّة يقابله رقم، لوجدنا أنّ الرقم 666 يعني عبارة “القيصر نيرون”، أمّا الرقم 616 فبالحساب اليونانيّ يعني “قيصر هو الله”.
ليس كتاب الرؤيا كتاباً يتحدّث عن الغيب وعن أزمنة لم تأتِ بعد، ولا يدعو المسيحيّين إلى الحياة الأبديّة عبر التكاسل والتخاذل وعدم اتّخاذ موقف إزاء ما يجري في عالمهم من اضطهادات. هو ليس كتاباً يدعوهم إلى الخوف والتقوقع والانعزال والهروب من مواجهة الأمر الواقع. هو كتاب يدعوهم إلى الحرية التي زرعها الله في الإنسان لتمييزه عن باقي المخلوقات، وإلى الدفاع عن هذه الحرية وإن كان ثمن ذلك باهظًا، ثمنه حياتهم.
لكنّ الكتاب أيضاً هو كتاب الرجاء. الرجاء بالربّ لا بالحاكم ولا بالسلطة ولا بالقوّة. فلا يحقّ للمسيحيّين أن يهملوا الرجاء باللجوء إلى الخوف وربط بقائهم ببقاء نظام أو حاكم. لم يلجأوا إلى نيرون أو ديوكليسيانوس أو سواهما من الأباطرة بل لجأوا إلى الربّ واستمرّوا. لم تقضِ عليهم أزمنة الاضطهادات ولن تقضي. كتاب الرؤيا هو كتاب “الأرض الجديدة والحياة الجديدة”. فلنصنعهما