محمد السمّاك : الصراع المسيحي على كنيسة القيامة

mjoa Wednesday January 18, 2012 177

بدا الصدام بين الرهبان المسيحيين الأرثوذكس والأرمن في كنيسة القيامة والتضارب بالأيدي والمكانس الطويلة مشهداً غير مألوف وغير طبيعي. إذ كيف يتقاتل رهبان في أقدس موقع لدى المسيحية، وهو كنيسة المهد؟.

والواقع ان هذا المشهد المحزن ليس جديداً. فقد بدأ في عام 1808 ولا يزال يتكرر. ونادراً ما تمرّ مناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح من دون أن تشهد كنيسة المهد اشتباكاً من هذا النوع.
في ذلك الوقت، أي في نهاية شهر أيلول من عام 1808، نشب حريق كبير في الكنيسة استمر يومين ألحق بها دماراً واسعاً. يومها وجه الأرثوذكس التهمة الى الأرمن بأنهم كانوا وراء هذا الحريق. لم تثبت التهمة، ولكنها ألصقت بهم.
وعندما تقرر ترميم الكنيسة حصل صراع أرمني أرثوذكسي حول من يتولى هذه المهمة المقدسة. هنا دخل اللاتين الكاثوليك على الخط، وطرحوا أنفسهم لاداء شرف ترميم المكان الأقدس عند المسيحيين. غير ان السلطان العثماني محمود الثاني ولسبب يعود الى ان المسيحيين في القدس كانوا في أكثريتهم من الأرثوذكس العرب، ورغبة منه في كسب ودهم، أعطى حقّ الترميم اليهم.

كان طبيعياً أن يعترض الأرمن، وأن يؤيدهم اللاتين الكاثوليك، مما ادى الى تأخير الترميم مدة عام كامل، الا ان التأخير لم يؤد الى التغيير. ففي شهر آب من عام 1809، باشر الأرثوذكس في ترميم الكنيسة وإزالة آثار الحريق استناداً الى القرار السلطاني.
مع ذلك، لم يستسلم الأرمن للأمر الواقع، فواصلوا اعتراضهم وتدخلوا لدى الباب العالي في اسطنبول مرة جديدة للسماح لهم في المشاركة في الترميم. في ذلك الوقت، كانت العلاقات العثمانية الأرمنية على أحسن حال. ولم تكن الكارثة التي تعرّض لها الأرمن فيما بعد- قد وقعت. استجاب السلطان محمود الثاني للمساعي الأرمنية. وتجسدت استجابته في تشكيل لجنة قضائية (من سبعة قضاة) ترأسها “شيخ الاسلام” للبت بصورة نهائية في القضية.
استمعت اللجنة الى وجهات نظر الطرفين، الأرثوذكس والأرمن، ودرست الأمر من كل جوانبه التاريخية، ثم أصدرت حكماً أقرّه السلطان دون مراجعة. وقضى الحكم بإعطاء الأرثوذكس وحدهم حقاً حصرياً في ترميم كنيسة القيامة. ولكن الحكم وضع شروطاً عليهم. من هذه الشروط:

[ أن يعاد بناء الكنيسة كما كانت – أي دون إضافة أي انشاءات جديدة اليها، حتى لا تكون الزيادات موضع خلافات جديدة.
ومن هذه الشروط أيضاً:

[ أن يعاد للأرمن القسم من الكنيسة الذي كان مخصصاً لهم دون أي نقصان. وأن يتمتعوا باستخدام هذا القسم كما كانوا في السابق أي قبل الحريق – دون أي قيود.
ومن هذه الشروط كذلك:

[ أن يقوم الأرثوذكس بترميم الكنيسة الخاصة بالأقباط والتي كانت موجودة خلف القبر المقدس، على أن تعاد بعد الترميم الى الأقباط.
التزم الأرثوذكس بهذه الشروط. الا انهم عندما رمموا الكنيسة القبطية، تعمدوا تقليل مساحتها عما كانت عليه، بحجة توسيع المدخل الى القبر المقدس. ذلك ان الكنيسة القبطية تقع خلف القبر. اعترض الأقباط واحتجوا، ولكنهم اضطروا الى قبول الأمر الواقع على أساس ان توسيع المدخل هو في مصلحة المسيحيين جميعاً.
اكتمل ترميم كنيسة القيامة في عام 1810. وأقيم أول قداس فيها بعد الترميم يوم 13 أيلول من ذلك العام. وكان قداساً أرثوذكسياً.

بلغت نفقات الترميم 355 ألف ريال. وهو مبلغ كبير جداً، في حسابات ذلك الوقت، ما كان باستطاعة الأرثوذكس منفردين توفيره. لذلك وافقوا على قبول مساهمات مالية من الأرمن ومن اللاتين. وكانت هذه المساهمات أساساً لتكريس الشراكة الأرثوذكسية الأرمنية اللاتينية في الكنيسة، وفي الإشراف على “القبر المقدس”. فالمسيحيون يعتقدون أن السيد المسيح دفن هناك، وانه من هناك خرج في اليوم الثالث وصعد الى السماء. (أما الاسلام فيقول ان الله توفاه ورفعه اليه. وهذا موضوع آخر ).

كان المسيحيون جميعاً، الأرثوذكس والأرمن واللاتين، يحتفلون بعيد ميلاد السيد المسيح في وقت واحد، الخامس والعشرين من كانون الأول، واستمر هذا التقليد حتى عام 1633 عندما قرر الأرمن أن يعيّدوا يوم “سبت النور” الذي يصادف السادس من كانون الثاني. ويدّعي الأرثوذكس أن الأرمن فعلوا ذلك من أجل أن يحتفلوا بالميلاد منفردين، أي دون مشاركة الكنائس الأخرى. ومهما يكن من أمر هذا الاعتقاد، فان هذا التقليد الديني مستمر حتى اليوم، وهو تقليد تعتمده الكنيسة القبطية أيضاً.

ومن هنا أصل الاشتباك بين الرهبان في كنيسة القيامة. فبعد الاحتفالات بالميلاد التي تجريها الكنائس الأرثوذكسية واللاتينية الكاثوليكية يوم الخامس والعشرين من كانون الأول، يتولى الأرمن إعادة تنظيف كنيسة المهد استعداداً لاحتفالاتهم الخاصة بهذه المناسبة المقدسة. إلا أن الأرثوذكس يؤكدون حقهم وواجبهم في تنظيف الجزء المخصص لهم من الكنيسة، وتالياً اعتراضهم على أن تصل “المكانس” الأرمنية الى هذا الجزء. ويبررون ذلك بالخوف من أن يتحول ذلك الى حق مكتسب للأرمن على حساب الأرثوذكس (على قاعدة أن الكنيسة لمن ينظفها؟)

وكان هناك خلاف أرثوذكسي أرمني أيضاً حول من يقوم بشرف فتح باب كنيسة القيامة أمام وفود الحجاج الذين يتوافدون اليها من أنحاء العالم.
وفي عام 1834 (اي بعد انهزام الامبراطورية العثمانية أمام روسيا، واستقلال محمد علي بمصر وسيطرة ابنه ابراهيم باشا على فلسطين وسورية) قام أحد كبار العسكريين الروس بزيارة القدس ووقف على تفاصيل هذا الخلاف. وقد ساءه أن يرى الرسوم تفرض على الحجاج المسيحيين مقابل السماح لهم بدخول الكنيسة. ومن المعروف ان هذه الضرائب كانت قد فرضت في عهد صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير القدس من قوات الفرنجة (الصليبيين). وكان يقوم بجبايتها آل نسيبة وآل جودة بصفتهم حراس الكنيسة. وفي طريق عودته الى بلاده عن طريق مصر، أثار هذا الامر مع الخديوي محمد علي باشا الذي اصدر قراراً بإلغاء الرسوم وبالإبقاء على باب الكنيسة مفتوحاً باستمرار.
المفارقة في هذا الأمر هي ان أرمنياً مصرياً يدعى بوغوص آغا كان مقرباً من محمد علي حمل هذا القرار الى والي القدس الذي لم يجد بداً من تنفيذ القرار. ولقد تسلح الأرمن بتلك الالتفاتة وقاموا بفتح الباب الجانبي للكنيسة ودخلوها وأدخلوا معهم الحجاج الآخرين من دون أن يدفعوا أي رسم أو رشوة، ومن دون أن ينسقوا مع الأرثوذكس.
حدث ذلك في 13 كانون الثاني 1834. ومنذ ذلك الوقت، اعتمد الترتيب المستمر حتى اليوم، وهو أن يقوم الثلاثة، الأرمن والأرثوذكس ومعهم اللاتين الكاثوليك، بفتح باب كنيسة القيامة معاً.

وعندما ضرب زلزال قوي مدينة القدس في شهر أيار من عام 1834، سارع المسيحيون وخاصة الأرثوذكس والأرمن الى الحصول على تراخيص من ابراهيم باشا لترميم وتوسيع الأديرة والكنائس التي يشرفون عليها. وكان ابراهيم باشا يتعاطف مع مسيحيي القدس بسبب ثورة المسلمين ضده. ونظراً للنفوذ الذي كان يتمتع به بوغوص آغا، فقد استحصل للأرمن من محمد علي مباشرة على الموافقة لإعادة بناء ثلاثة مواقع هي أكثر المواقع قدسية لدى المسيحيين. وهي كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة جبل الزيتون في القدس.

اشعل حصوله على “الفرمانات” السلطانية الثلاثة ثورة احتجاجية قام بها الأرثوذكس وتمكنوا بالقوة من منع الأرمن من تنفيذ مخططهم.
ولهذا الاشتباك أصل آخر. فعندما قامت الانتفاضات الوطنية في الجزر اليونانية للاستقلال عن الامبراطورية العثمانية، لم يفرق العثمانيون في محاولة قمع تلك الانتفاضات بين اليونانيين الأرثوذكس، والعرب الأرثوذكس. فعاملوا الجميع برد فعل انتقامي على انهم واحد. وقد بلغ الانتقام العثماني حد تشريع اجراءات عنصرية تمييزية ضد المسيحيين الأرثوذكس فرض عليهم بموجبها لبس السواد والعمائم السوداء حتى يتم تمييزهم عن غيرهم. وفيما بعد، اتسع نطاق هذا الإجراء العنصري ليشمل المسيحيين الآخرين دون تمييز أيضاً. ورغم الخلفية القومية للصراع العثماني اليوناني، فان الاجراءات العنصرية التي فرضتها الادارة العثمانية اعطيت صفة دينية أساءت الى الاسلام، وأساءت الى العلاقات الاسلامية المسيحية. في ذلك الوقت اتهم الأرثوذكس الأرمن الذين كانوا يتمتعون بمواقع رفيعة في السلطنة العثمانية، بأنهم ساهموا في التحريض ضدهم انتقاماً لخسارتهم معركة شرف إعادة بناء وترميم كنيسة القيامة!! وهي المعركة التي نقلت شاشات التلفزة مشهداً مؤلماً لها في الأسبوع الماضي.

فالحكم الذي أصدرته اللجنة القضائية برئاسة “شيخ الاسلام” في عام 1809 لا يزال قائماً ومعتمداً حتى اليوم، رغم دخول كنائس جديدة على الصورة، مثل الكنائس الانجيلية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية. إلا أن المفارقة المحزنة هي انه في الوقت الذي يجري فيه الصراع في كنيسة القيامة، يتواصل الصراع على كنيسة القيامة ذاتها وعلى سائر المقدسات المسيحية والاسلامية التي تنوء تحت مطرقة التهويد، من الناصرة حتى بيت لحم، ومن الخليل حتى القدس

ورد لدى الكاتب في مقاله ذكر ” سبت النور ” بدل من عيد ” الظهور الالهي” فاقتضى التصويب

المستقبل- 16 / 01 / 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share