لمّا كانت الكنيسة قطيعًا صغيرًا ربحت العالم، فلمّا صارت قطيعًا كبيرًا خسرته! هذا لأنّ القطيع الصّغير يعتمد على الله، فيما يعتمد القطيع الكبير على نفسه! في كلّ حال، لا قلّة العدد هي الموضوع ولا كثرته، بل التّسليم لله. الكلام على القطيع الصّغير، في الحقيقة، هو كلام على ما يستبدّ بوجدان القلّة في بحر الكثرة، والخراف في كنف الذّئاب! لقد شاء الرّبّ الإله أن يرسلَ تلاميذه إلى الكرازة بكلمة الحياة “كغنم في وسْط ذئاب” (مت 10: 16). وجدان القطيع الصّغير،
على غرار بولس الرّسول، وجدان “ضعف وخوف ورعدة كثيرة” (1 كو 2: 3)! هكذا يكون القطيع الصّغير في ذاته. هذا ما يحدوه إلى الاحتفاف المتواتر براعي الخراف. وهذا ما يحدوه إلى طلب الاستقواء بالله. فقط، إذ ذاك، والقطيع الصّغير في هذه الحال الوجدانيّة، يُعطَى أن يَختبر، في ضعفه، وقلّته، قوّةَ الله، وكثرتَه! “فإنّنا وإن كنّا نسلك في الجسد لسنا حَسَب الجسد نحارب، إذ أسلحةُ محاربتنا ليست جسديّة بل قادرة بالله على هدم حصون…” (2 كو 10: 3 – 4)!
أمّا القطيع الكبير فيواجه تجارب خطرة جمّة. أولى هذه التّجارب أن يَظنّ، في قرارة نفسه، أنّ يده خلّصته، ومن ثمّ أن يفتخر بنفسه، ولو قال بإلهه. إذ ذاك ينسى، في العمق، القول الإلهيّ: “الفرَسُ مُعَدٌّ ليوم الحرب، أمّا النّصرة فمن الرّبّ” (أم 21: 31). لو كان العليُّ ليدع القطيع المسمّى عليه، في هذه الحال، ينتصر، لنَسَبَ القطيعُ ما لله لنفسه. لذلك يتركه يفشل ليتأدّب ويتعلّم أنّه “ليس في قوّة الفرس هواه، ولا بسيقان الإنسان رضاه. الرّبّ يرضى عن الّذين يخافونه والّذين على رحمته يتّكلون” (مز 146: 10 – 11). جدعون القاضي اجتمع حوله، لمنازلة المديانيِّين، اثنان وثلاثون ألف مقاتل من الشّعب. لكنْ لم يسمح له الرّبّ الإله أن يخوض الحرب بهذه الكثرة “لئلا يفتخر عليّ إسرائيل قائلاً يدي خلَّصتني” (قض 7: 2)، على حدّ تعبير الله. فكان أن أنقص العليُّ العددَ حتّى بلّغه ثلاثمائة، أي أقلّ من واحد في المائة ممّا كان عليه. بشريًّا، كان مستحيلاً أن ينتصر جدعون على أعدائه بمثل هذا العدد القليل من الرّجال. وهذا، تمامًا، ما أراد الرّبّ الإله لجدعون والشّعب أن يدركوه! لذا قال لجدعون: “بالثّلاثمائة الرّجل… أخلّصكم وأدفع المديانيّين ليدك”! كذلك، عندما انتاب داودَ الملك زهوٌ بنفسه والشّعب الّذي تحت يده، وأمر بإجراء الإحصاء الكبير لذوي البأس في إسرائيل ويهوذا، أدّبه الرّبُّ الإله والشّعبَ تأديبًا قاسيًا (2 صم / 2 مل 24)!
والتّجربة الأقسى للقطيع الكبير أن يتحوَّل من قطيع غنم إلى قطيع ذئاب. إذ ذاك يُسقِط ذئبيّته على الله، فيمسي إلهُه قاتولاً، والقتلُ عملاً مبرَّرًا باسم الله! وإذا كان السّيّد قد نبّه تلاميذه إلى أنّ وقتًا يأتي يظنّ فيه كلّ مَن يقتلكم أنّه يقدِّم عبادة لله (يو 16: 2)، فالأخطر كان ولا زال أن يَنحطّ المعتبَرون أهل بيت الله إلى الدَّرَك الّذي يشرِّعون فيه القتلَ باسم الله وخدمةً لله!
في ضوء ما تقدَّم، يكون عصرُ النّهضة الكنسيّة بامتياز زمنَ القرون الثّلاثة الأولى، إثر صعود الرّبّ يسوع إلى السّماء ونزول الرّوح القدس على التّلاميذ. هذا استمرّ جُذُرًا، فيما بعد، هنا وهناك، لا سيّما في الأوساط الرّهبانيّة. هؤلاء هم الّذين استمرّوا قطيعًا صغيرًا إلى اليوم. أمّا الممالك المسيحيّة الّتي نشأت، بدءًا من الأمبراطوريّة البيزنطيّة، فقد طغتها روحيّة القطيع الكبير أو قل المستكبِر، فحلّلت الكثير ممّا كان محرَّمًا، وارتُكِبَتْ فيها، تحت جنْح مسيح الرّبّ، من الموبقات ما لا يُحَدّ وما لا يوصَف ممّا يندى له الجبين! لا شكّ أنّ بركات الله في كنيسته استمرّت عبر الأزمنة الّتي كانت فيها تلك الممالك عامرة، لكنّها استمرّت بالقطيع الصّغير الّذين انوجد في وسط القطيع الكبير، والله أعرفُ بمَن هم له! ولكنْ لا شكّ، أيضًا، أنّ تشويه صورة مسيح الرّبّ وحقيقةِ كنيسته، في الممالك المسمّاة مسيحيّة، كان مروِّعًا! أتُرى، في إطار هذا المنظور، كان سقوط القسطنطينيّة كارثة أم بَرَكة؟! “فإنّ اسم الله يُجدَّف عليه بسببكم بين الأمم كما هو مكتوب” (رو 2: 24)!
الكارثة الكبرى الّتي لحقت بشعب الله كانت أنّ الوجدان الإيمانيّ، خلال سبعة عشر قرنًا، بعد القرون الذّهبيّة الثّلاثة الأولى، أصابه، بعامّة، عطبٌ ليس بقليل! اعتاد الأكثرون ذهنيّة القطيع الكبير، ذهنيّة عبادة الله كداعم لأهواء الإنسان! وهذه هي الوثنيّة بعينها! في الأساس كان الله مليكًا على شعبه يسوسهم لخيرهم تمامًا حتّى في أدقّ تفاصيل حياتهم. الكلام الإلهيّ، المختصّ بالشّريعة، في أسفار الخروج واللاّويّين والتّثنية، خير دليل على ذلك. عندما طلب الشّعب من صموئيل النّبيّ والقاضي مَلِكًا يقضي لهم كسائر شعوب الأرض، وساء الأمر في عينيه، صلّى إلى الرّبّ الإله، فأجابه العليّ: “لم يرفضوك أنت بل إيّاي رفضوا حتّى لا أملك عليهم”! لكنّه، أضاف: “اسمع لصوتهم ومَلِّك عليهم مَلِكًا” (1 صم/1 مل 8)! يرضى الله بما يشاؤه الإنسان لنفسه ويصرّ عليه! حتّى في ما يقيم الإنسان بعناد، يبقى الله عاملاً على خلاص البشريّة. غير أنّ تمسُّك البشريّة بما لا يحظى ببَرَكة العليّ يعني أن تتكثّف خطيئتها، ومن ثمّ أن تتعاظم آلامها، حيث لا يعود غير الألم الكبير يُعين في التّوبة إلى الله! “ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد”!
في إطار الوجدان الإيمانيّ القويم، الرّبّ الإله هو المالك على حياة الإنسان. إيمان بلا تسليم كامل لله لا يعود إيمانًا حيًّا حقيقيًّا به! ما آل إليه تاريخُنا، على مدى قرون، يجعلنا، بعامّة، خاضعين لمِلكيّة غير مِلكيّة الله علينا. عمليًّا، عدنا إلى صنميّتنا من جديد، ولو باسم الله ومسيحه! أهواؤنا هي الّتي تملك علينا من دون الله! هيكل الصّنميّة المستجدَّة هو جسدُنا. لكلّ هوى تعابيره في الجسد والنّفس، وفي مستوى العقل والفكر. أمّا عبادتُنا فالسّيرةُ الاستهلاكيّة. الله في منظورنا، بعامّة، بات داعمًا، في التّعاطي، لكلّ هوى من أهوائنا! تُفرَغ الكلمة من مضمونها! لمّا يَعُدِ الإيمان تسليمًا لله، بل تنظيرًا في مستوى الفكر، وعواطف في مستوى المشاعر والأحاسيس، وسياسات ومؤسّسات ومكاسب وإدارات في مستوى الجسد! إذًا لم يعد الإيمان، اليوم، إلى حدّ بعيد، من نفس طينة إيمان الكنيسة الأولى! الوجدان تغيَّر، وتاليًا، العلاقة بالله تغيَّرت! اليوم، نتكلّم على الإيمان ولا نحيا في عمق الإيمان! ولو كان لنا كلامُ المسيحيّين الأوائل فليس لنا، إلى حدّ بعيد، بعدُ، وجدانهم! إذا كان قد قيل: “متى جاء ابن الإنسان فهل يجد الإيمان على الأرض؟!” فلا أظنّ أنّ هذا سوف يأتي في المستقبل، بل هذا، بالضّبط، ما نحن فيه، الآن، بعمق. في الكنيسة، راهنًا، مؤمنون عديدون بلا إيمان، وهم يظنّون العكس، ورعاة، ليسوا قلّة، لا يؤمنون!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما