ما هكذا تورد يا ساكس الإبلُ!

mjoa Wednesday January 25, 2012 160

يا لسخرية القدر! كان لا ينقص المسيحيّين العرب سوى أن يدافع عن وجودهم في بلادهم الأصليّة حاخام يهوديّ يتغاضى عن جرائم الدولة الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين! إنّها حقاً لسخرية أن يتغاضى هذا الحاخام عن أصولية الجماعات والأحزاب اليهوديّة، ويحذّر في الوقت عينه من خطر الجماعات الإسلامية المتشدّدة على الوجود المسيحيّ في المشرق العربيّ.


فقد ورد في صحيفة “لا كروا” الفرنسيّة أن اللورد جوناثان ساكس، الحاخام الأكبر في بريطانيا العظمى ودول الكومنولث، دعا في خطاب أمام مجلس اللوردات البريطاني إلى الدفاع عن المسيحيين في وجه “الاضطهادات التي يمارسها الإسلام الراديكالي ضدّهم”. وحذّر من المصير الذي ينتظر المسيحيين في الشرق الأوسط، “هذا المصير الذي يشكّل المعيار الحقيقي للربيع العربيّ”. كما أسف الحاخام الأكبر على “كون المسيحيين المعتدلين في أوروبا يخافون الدفاع عن إيمانهم وعن ثقافتهم وعن إخوتهم المضطّهدين”.
“قلق” الحاخام البريطاني على المسيحيين العرب يقلقهم أكثر مما يريحهم. فهو ينمّ عن خبث في التعاطي مع المسألة الجوهرية التي تخصّ المسلمين والمسيحيين معاً، وهي القضية الفلسطينية. فالدولة الإسرائيلية أعلنت، بوضوح وبلا لبس، أنها “دولة يهوديّة” صافية دينيًّا. كما أنّها عملت بمنهجيّة صارمة على الاستيطان وإفراغ الأراضي الفلسطينية من أبنائها الأصليين.

وما صنعته “الدولة اليهودية” بالمسيحيين الفلسطينيين لم تصنعه مدّة ثلاثة عشر قرناً من الحكم الإسلاميّ، بما فيه الحكم العثماني، إذ تقهقهر عدد المسيحيين في فلسطين من نحو عشرين في المئة عند قيام دولة إسرائيل إلى نحو اثنين في المئة فقط في يومنا الحاضر. “قلق” الحاخام، صاحب لقب اللورد، على المسيحيين يقلقهم أكثر ممّا يطمئنهم، لأنه يريد الإيحاء، بخبث أيضاً، بأن العدو المشترك للمسيحيين واليهود، حضارةً وثقافةً وديانةً وتاريخاً، إنما هو الإسلام. فالحاخام المذكور أكّد، أمام البابا بينيديكتوس السادس عشر، قبل أيام من خطابه في مجلس اللوردات، أهمية الحضارة اليهودية-المسيحية التي صنعت الحضارة الأوروبيّة، ودعا، أمام البابا، إلى التحالف ضدّ كل الأخطار التي تتهدّد أوروبا. وبإقصائه المسلمين والإسلام قصداً يجعلنا ساكس نقول إنّه كان يعتبر الدين الإسلامي ضمن تلك الأخطار الداهمة، ويريد إقحام المسيحيّين العرب في هذه المعادلة الجهنمية، ما سوف يفضي حتماً إلى إلغاء وجودهم وحضورهم، وإلى إبادتهم معنوياً وأدبياً.

المسيحيّون يقلقهم “قلق” الحاخام الأكبر لأنّه يستبطن دعوةً إلى قيام حلف يضمّ الأقلّيّات في الشرق ضد “المارد الإسلاميّ”، ما قد يؤدّي إلى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات طائفية. وهذا، بطبيعة الحال، لا يصب سوى في مصلحة “الدولة اليهوديّة”، ومَن يسعى إلى تهويد فلسطين بالكامل، وتهويد الفكر الدينيّ في العالم العربي. والمسيحيون لا يريدون أن يحيوا في أوطانهم أقلية منعزلة متقوقعة، بل يعتبرون أنفسهم أبناء أبراراً لأوطانهم، ولهم ما لسواهم، وعليهم ما على سواهم.

الحاخام جوناثان ساكس، ومثله كمثل قادة الغرب كلّهم، ليس حريصاً على المسيحيّين العرب وعلى مصيرهم. كلّهم حريصون على أمن إسرائيل فحسب، ولو خربت الدنيا كلّها، وقُتل الملايين من الناس. الحريص حقاً على مصير المسيحيين العرب هو مَن يتبنّى القضايا العربيّة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. لن نصدّقكم، يا سادة، حتى نراكم تدينون إسرائيل وتدافعون عن حقّ الشعب الفلسطيني بالبقاء كريماً في أرضه.

الأب جورج مسّوح – جريدة النهار  2012-01-25

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share