لماذا لا تجذبني الديانة الهندوقية ولا البوذية وهذا ما يفسر اني، سائحا، لا أتوق الى زيارة الهند البوذية، وهي التي أطلت ثانية اي بعد البرهمية، لا إله لها او فيها وهذا يعسر على أهل بلادنا ان يفهموه لأن جوهر الدين عندنا هو الإله الذي يكوّنه او يسكنه. ماذا في الهند اذًا؟ الله الممدود كونا اي الحالّ في كل اجزاء هذه الدنيا وهذا ما يسمى الحلولية بحيث لا يمكنك ان تفرق بين الواجد والموجود، بين المرئي وغير المرئي. الهند اندماج، انصهار، ذوبان وليس من مواجهة بين اللاهوت والناسوت. انت لست هو وهو ليس انت اذ ليس من مخلوق ازاء الخالق. ليس من اعلى ولا من ادنى. الوجود كله مد عظيم كالقارة الهندية.
هذه الرؤية لا تمنع ان يأتي البوذيون من خيرة الناس لأن الدين عندهم اخلاق وهم يجدّون في النسك ويتطهرون بلا إله. المركز هو هم واذا تنقوا فما حاجتهم الى إله؟ هكذا يفكرون.
أظن ان الفارق الاساس بيننا وبينهم انهم يبدأون بأنفسهم ونحن نبدأ بالله ونجيء من تأملنا به ونحس اننا ننشأ خلقيا منه واننا “به نحيا ونتحرك ونوجد” (أعمال الرسل 17: 28). نفحص عما اذا ارتضى ان يسكن فينا كما يقول انجيل يوحنا. وما نسميه تقوى ان هو الا تعبيرا عن سكناه فينا. وما نسميه فضيلة ان هو الا تجليا له. ليس اننا نحن موضعه اذ لا يتموضع ولكنا حضوره اذ لا يحضر في دنياه الا بنعمة سكبها فينا والكلمات التي كلمنا بها وصارت منا.
بيننا وبينه اتحاد ومن قال اتحادا قال باثنين اذ لا تتحد مع نفسك والمسيحيون يجرؤون على تسمية ذلك مشاركة او شركة الروح القدس. لقد زال الانفصال بعد ان اعلن الله محبته لنا. والاتصال – الشركة يجيء من مشيئته ورحمته ونحن نتقبله تقبلا وتقابلا عملا بقوله: “لا احد يعرف الابن الا الآب ولا احد يعرف الآب الا الابن ومن أراد الابن ان يكشف له” (متى 11: 27). الثالوث هو الذي يعرف ذاته بمعنى انه قائم بالمحبة الدائرة فيه وهي وحدانيته. ثم بالانعطاف الإلهي يستدخلنا هو المشاركة الثالوثية. الاتحاد بيننا وبين الله هبة. وهذا يكشف استقلاله عنا ومحبته في آن واحد.
¶ ¶ ¶
يجب ان يكون مفارقا كما يقول الفلاسفة المسلمون. استعير كلامهم فقط لاؤكد إمكان الاتحاد بيننا وبينه والإسلام ليس عليه.
واذا كان الله غير قابل للاتحاد بي فما أمري معه واذذاك يكون كلامه فوقي وليس فيّ. يكون عليّ مشرفا ويهمه ان اراه فوقي وليس معي. اذ ذاك لا يحمل كلامه قوة الصلة الا بفهمي اياه. ويكون ارتباطي بكلامه وليس به وهو غير كلامي ولو كان ضامنا لكلامه.
أنا وبينه في تواجه اي ان له وجها وهو لاهوته ولي وجه وهو ناسوتيتي واذا كانت اللاهوتية والناسوتية لا تفنى احداهما بالاخرى فنحن اثنان ولكنا قادران بحبه على ان نلتقي.
ولكون الابن قائما في بشريته اصبح قادرا ان التقي البشر الآخرين اي اني اعطيهم ربي بحبي اياهم بمعنى اني امدهم بالحب الإلهي الذي يسكنني ولا بمعنى اني امدهم ببشريتي. يجب ان اعطيهم الله نفسه ليصير كل منهم بشرا سويا، لكي يخرجوا من خطاياهم التي تحدرهم الى هلاك بشريتهم. من هنا ان الله اساسي في التبادل البشري.
الملحد لا يفهم هذا وان لم يكن خاليا في صفائه وطهارته من الله ولو لم يرتبط عقله به. لكن الملحد لا يعطي البشر بشرية. يعطيهم ألوهة حالة به ولو لم يعرف.
الشركة بين المؤمنين شركة إلهية تفسدها الخطيئة ولا تلغيها. تحمل هذه الشركة امة الله التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
بعد ان تنازل الابن الوحيد الى العالم تبنانا الله اذ كنا قبل ذلك ابناء الغضب وكشف ليس محبته لنا فحسب ولكنه كشف انه يحبنا بالمقدار نفسه الذي يحب به مسيحه. تبنينا ليس كلمة “شعرية”. انه جوهر العلاقة بيننا وبين الرب باعتباره مخلصا.
الله تاليا ليس جالسا فوق اذ ليس من فوق الا الهواء او ما بعد الهواء. ليس الله في مكان. لذلك ليست السماء مكانا. الله ساكن تحت اي في قلوب الناس الذين يحبونه والذين لا يحبونه اذ لا يستطيع الا ان يسكن بحقيقته الإلهية اي بالقوى غير المخلوقة الصادرة عنه أزليا كما يتكلم المسيحيون الأرثوذكسيون. لا تخلو لحظةً، النفس من الله فإن خلت تموت موتاً جوهريا. كل ذرة فينا قائمة بسبب العطف الإلهي المحيط بها. كل جسدنا متماسك بالنعمة المنحنية عليه. انه يقوم في اليوم الآخر او اليوم الأخير لأنه لبس النعمة ولا تفارقه. على ضوء هذا افهم الكلام القرآني: “الله يتوفى الأنفس حين موتها” (الزمر 42). المعنى ان الله لا يتركها ويضمها الى أجسادها في القيامة. فبعد ان استردها اليه بالوفاة يسترد لها اجسادها.
كل حياتنا لا معنى لها ما لم نعِ ان الله معنا والمسيحية تقول انه فينا وهو مصدر حبنا له وقوة طاعتنا وحبنا يأتي من حنانه وبين حبه وحبنا تماس وهو بدء الحب فينا ومنتهاه. “ادين بدين الحب انى توجهت ركائبه” اذ من اعطى هذا الحب بمجانية شفقته مصدر كل شيء فينا ومرجع كل شيء.