الاِبن الضالّ

mjoa Monday February 13, 2012 223

إنّ نصّ إنجيل الابن الضالّ يضعنا أمام لوحة حياتيّة مهمّة جدًّا، إذ نلاحظ ابنًا شابًّا مندفعًا بعنفوان كبير لا يفكر إلاَّ بذاته. الحياة عنده سَفَر، حفلة، غريزة، تمرّد على المألوف، استقلاليّة، حرّيّة… أليست حاله حال كثير من أبنائنا؟ فهل هذا خطأ؟ بالطبع لا. فكلّ واحد له حقّه في أن يستقلّ عن أهله وأن يحقّق ذاته، وأن يكون سعيداً وحرًّا. السؤال أين خطؤه إذاً؟
خطؤه يكمن في طريقة تفكيره، وفي توجيه الطاقة الكامنة فيه، أي إمكاناته، فلم يوجّه عنفوانه وتمرّده وانفعالاته إلى الخطأ، إنّما جعلها مُسَيِّرةً إياه. وبدل أن يمتطيها ويقودها، قادته هي فأوصلته الى الخطأ. طبيعيّ هو صراع الأجيال، فالصغير يفكر بطريقة والكبير بأخرى. الأوّل، أغلب الأحيان، يملك ضبابيّة في الرؤيا الخاضعة عنده للمتحوِّلات فيه، ويعتبر خبراته المحدودة معرفةً كاملة فيصعب عليه التعلّم من الآخر وقبوله. كما أنّ الكبير، في بعض الأحيان، قد يدفع نفسه إلى الخطأ بسبب استخفافه بمعرفة الصغير الذي لا يكون، دائمًا، على خطأ.

*    *    *

المشكلة، إذاً، كامنة في الأنا وعدم التواضع الذي يقود الى مواقف صلبة وحادّة، ما يمنعنا من التمييز والاستفادة من خبرات الآخرين. الابن الأصغر ضلَّ لأنّه
أغلق فكره فقلبه، فلم يعد يميّز بين من يحبّه وبين من لا يحبّه، وبين من يريد له خيرًا وبين من يريد له شراً. فالخطأ له فلسفته وحججه المقنعة والجذابة التي تركّز على الأحاسيس والمشاعر التي قد تخدع الانسان، فالخطيئة قد تبدو كشهد العسل وأكثر نعومة من الزيت، غير أنّ “عاقبتها مرّة كالعلقم” (أمثال 5: 4). لذلك يعرض علينا النصّ هذا الابن الذي سار بأنانيّته وأحاسيسه ورغائبه وما آلت إليه الحال من دونيّة.

الجمال في النصّ أنّه يعرض لنا إمكان العودة عن الخطأ. وبالتالي، يزرع فينا الأمل والرجاء. إنّه يقول لنا إنّ التركيز ليس على الخطيئة، إنّما على العودة عن الخطأ، فالاعتراف بالخطأ فضيلة. أذكر أحد الشيوخ الرهبان عندما سُئِلَ: “ماذا تفعلون في الدير؟”، أجاب: “نسقط ونقوم”. في زمن لا يعرف إلا لغة الانتقام والعقاب، يضعنا النصّ، وبصورة جميلة جدًّا، في بقعة نور تقودنا إلى وعي الذات للدخول في الحياة الأفضل القائمة على الجرأة بالاعتراف بالخطأ، لننطلق بالنور المتأتي من حضن السيّد باعثّا فينا دفءًا وطمأنينةً وفرحاً وسروراً. مشكلتنا، اليوم، أنّنا نهرب من الاعتراف بالخطأ

وهذا يزيد في الإشكاليّة تعقيداً. فلو لم يفكّر الابن الضالّ بخطأه والنتيجة التي وصل إليها من جرّاء الخطيئة وامتلك الجرأة للاعتراف بها: “أخطأت أمامك وأمام الله”، لما حصل له الغفران ولبس حذاءً، أي الحرّيّة، مُعْتَقًا من العبوديّة ليصبح حرًّا بالله.
إنجيل اليوم يضعنا أمام تحدّي العبوديّة في الذات، وخيار الحياة إمّا في الراحة والفرح وإمّا في الحزن والتعاسة. فلنصرخ لله صرخة الابن الضالّ:”… أنا لست مستحقًّا أن أدعى لك ابناً، فاجعلني كأحد أجرائك…”.       

الأسقف غطّاس هزيم
نشرة الكرمة تصدرها أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share