المسيحيّون بعضهم قد بدأ الصوم الأربعينيّ الكبير، وبعضهم الآخر يبدأونه الاثنين القادم. والصوم عندهم امتناع عن الطعام والشرب في أوقات معلومة، وإمساك عن بعض أصناف الطعام. وهذا الصوم يتهيّأ فيه المسيحيّون لاستقبال السيّد المسيح القائم من بين الأموات في عيد الفصح المجيد.
العبرة الأساسيّة من الصوم هي التوبة، أي العودة إلى الله بعد نأي سبّبته الخطيئة. الإنسان الصائم يجاهد في صومه من أجل التدرّب على محاربة الخطيئة والقضاء عليها. ليست الغاية من الصوم الانقطاع عن الطعام والشرب، بل الغاية الأسمى هي التوبة، وتاليًا القداسة. وما الصوم عن الطعام سوى وسيلة من وسائل عدّة لبلوغ هذا الهدف المنشود. وهذا ما قصده الرسول بولس حين قال: “الطعام للبطن، والبطن للطعام، والله سيقضي على الاثنين معًا. أمّا جسد الإنسان فما هو للزنى، بل هو للربّ والربّ للجسد” (كورنثس الأولى 6، 13).
من دون أن ننكر أهمّيّة الصوم، كما هو يمارَس اليوم، هل ثمّة حاجة إلى صوم موازٍ عن أمور شتّى تحدث معنا في حياتنا اليوميّة وتجعلنا مقصيّين عن الله ووصاياه؟ لا ريب في أن الجواب هو وجود حاجة ماسّة إلى أصناف أخرى من الصوم. ففي التراثات الدينيّة العديدة أخبار وروايات عن أصوام كان يمارسها المؤمنون في أوقات الشدّة والمحن. وهل أيّامنا الراهنة ليست أوقات محنة وشدّة كي لا نذهب إلى أصوام تدعونا إليها هذه الظروف الأليمة التي تهدّد مصائرنا من كلّ حدب وصوب؟
ينتقد السيّد المسيح الفرّيسيّين، علماء الشريعة ومعلّميها، على تمسّكهم بحروفيّة الشريعة وإهمالهم روحيّتها، فيقول: “أيّها المراؤون! تعطون العشر من النعنع والصعتر والكمّون، ولكنّكم تهملون أهمّ ما في الشريعة: العدل والرحمة والصدق، وهذا ما كان يجب عليكم أن تعملوا به من دون أن تهملوا ذاك” (متّى 23، 23)، ويقول أيضًا: “أريد رحمة لا ذبيحة” (متّى 9، 13). الرحمة هي المبتغى من أحكام الشريعة والطقوس والشعائر والعبادات كافّة. ومن يمتلك الرحمة يمتلك الفضائل والقيم الأخرى، وخصوصًا العدل والصدق.
الصوم في سبيل اقتناء الرحمة والعدل والصدق يفترض الصوم عن العنف والحقد والبغض، وعن التكاره والتقاتل والتحارب ما بين الإخوة أو المواطنين، وعن السعي إلى الفتنة والانخراط فيها قولاً وفعلاً، وعن الشحن المذهبيّ والفرز الطائفيّ والاستعلاء الدينيّ، وعن التشدّد والتطرّف الدينيّين، وعن العنصريّة والتمييز ما بين خلق الله، وعن الفساد والاستغلال وعبادة السلطة والمال، وعن الكذب الذي هو باب الموبقات كلّها.
هذه الشياطين التي تغنّي وترقص في أجواء بلادنا لن يقضي عليها سوى الصوم عن الآفات التي تضرب مجتمعاتنا، والتي تزرع في نفوس أبنائها بذور التخلّف والتعصّب والانحطاط الخلقيّ. وقد قال المسيح: “هذا الجنس (الشياطين) لا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم” (مرقس 9، 29)، قاصدًا بالشياطين أصناف الخطايا والآثام كلّها. وهو نفسه يعدّدها بقوله: “من قلوب الناس تخرج الأفكار الشرّيرة: الفسق والسرقة والقتل والزنى والطمع والخبث والغشّ والفجور والحسد والنميمة والكبرياء والجهل. هذه المفاسد كلّها تخرج من داخل الإنسان فتنجّسه” (مرقس 7، 21-23).
الإنسان أكثر دهاء من الشيطان. بات الإنسان معلّمًا للشيطان. لكنّ أبواب التوبة مفتوحة له متى شاء العودة بحرّيّته وإرادته. بلادنا في حاجة إلى توبة أبنائها عمّا يتملّكها من نزعات شيطانيّة. فليكن الصوم مكرّسًا في سبيل إبادتها حتّى نستحقّ الحياة، وعن حقّ.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،22 شباط 2012