رسالة عشق إلى طرابلس

الأب جورج مسّوح Wednesday February 29, 2012 166

يأتي في أوانه كتاب “طرابلس مدينة كلّ العصور”، الذي أصدرته جامعة البلمند بحلّة فاخرة. يأتي ليشهد للتنوّع الذي عاشته المدينة عبر تاريخها العريق في حقبه كافّة. يأتي ليشهد لانفتاح المدينة على الحضارة العالميّة والثقافات المحلّيّة والتراثات الدينيّة المتعدّدة. يأتي ليشهد أنّ العيش في مجتمع متنوّع ما زالت حظوظه مرتفعة في مشرقنا العربيّ، وفي مدنه وقراه وحاراته وأزقّته.

احترام التنوّع هو الرسالة التي توجز الكتاب كلّه، وهذا ما نجحت في إبرازه الأستاذة الجامعيّة هند أديب دورليان عبر نصوص الكتاب. أمّا مَن يقرأه ويتأمّل في صوره البديعة فليس له حاجة إلى كلام بات خشبيًّا عن الحوار والتقارب والعيش المشترك… الصور التي التقطها بحرفيّة عالية الفنان الراحل ماريو سابا تشهد لكلّ هذا، وبصمت ملوّن بليغ. والصور أصدق إنباءً من الكلام. الاختلاط في الأسواق والخانات والحمّامات والساحات والحدائق، والتجاور في أماكن العبادة، كلّها تؤكّد على إرادة واحدة راسخة تجمع أبناء هذه المدينة.

الحياة اليوميّة هي التي علّمت أبناء مدينة طرابلس أنّ قبول الآخر المختلف دينيًّا أو طائفيًّا، واحترامه والحرص على بقائه، هو أمر جوهريّ لا مساومة فيه. وفي هذا لا تختلف طرابلس عن باقي المدن العربيّة ذات الغالبيّة الإسلاميّة، والتي ما زال فيها حضور مسيحيّ فاعل. وهذا ربّما يعود إلى التراث الإسلاميّ الذي يأمر باحترام حرّيّة المسيحيّين وحرّيتهم بممارسة شعائرهم والتقيّد بقوانينهم الخاصّة بالأحوال الشخصيّة.

الاختلاط في الحياة اليوميّة هو الذي يصنع التقارب الحقيقيّ بين أفراد المجتمع الواحد. وهذا ما شاء أن يقوله لنا هذا الكتاب. اندثرت كنائس، وبُنيت في أماكنها المساجد. برج كنيسة يتحوّل إلى مئذنة. كنيسة تتحوّل إلى مسجد. أعمدة بيزنطيّة في مسجد… غير أنّ ثمّة كنائس بقيت شاهدة على الوجود المسيحيّ في المدينة. وربّما أدّى التغيير الديموغرافيّ دوره في هذا التحوّل. غير أنّ الأهمّ هو أنّ أبناء المدينة من المسيحيّين بقوا شاهدين لمتانة العلاقات التي تجمعهم مع أبناء مدينتهم من المسلمين.

هذا الكتاب يأتي في أيّامنا الحاضرة، حيث الفتنة تحاصرنا هنا وثمّة، ليذكّرنا بأنّ العيش معًا في مجتمع متنوّع ليس خرافة، وليس أسطورة من أساطير الأوّلين، وليس أضغاث أحلام… بل هو حقيقة ملموسة، وواقع مرئيّ. أمّا استمرار هذا العيش معًا فهو منوط بإرادة الطرابلسيّين وحدهم. وكما حافظ أجدادهم على إرث التنوّع، بات الأمر خاضعًا اليوم لتوجّهات أبناء المدينة وميولهم. هم وحدهم يستطيعون الإجابة على السؤال: أيّ مدينة تريدون؟ أيّ غد لمدينتكم تبنون؟

يقول الدكتور إيلي سالم، رئيس جامعة البلمند، في تقديمه للكتاب إنّ “هذا الكتاب هو عربون محبّة لمدينة طرابلس، مدينة لبنان والعرب والإنسانيّة”. بعد أن قرأنا الكتاب وجدناه أكثر من عربون محبّة يأتي من جامعة وطنيّة لا تخفي هويّتها الأرثوذكسيّة إلى مدينة شهدت عصورًا من الرحابة والانفتاح على أبنائها وعلى أبناء الجوار. هذا الكتاب هو رسالة عشق لا تحمل أشواقًا حالمة أو حنينًا إلى ماضٍ لن يعود. هو رسالة عشق ترسلها تلّة البلمند إلى مدينة تستحقّ أن تُعشق، وتستحقّ أكثر من كتاب واحد في العشق، وأكثر من قصيدة حبّ مدروزة بالألوان والأمداء الواسعة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،29 شباط 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share