سألني مرة أحدهم في كهولتي: “أعندك عبارة واحدة تعرف نفسك بها منذ نشأتك حتى اليوم تكون عصارة فهمك لذاتك ولا تنتقص منك شيئا وتتوق ان تبقى عليها ولا يزيدها شيء آخر يراه الناس انه من هويتك”؟ قلت له: “انا صبي فقير من حارة النصارى”.
انا ما كنت اعرف في طفولتي الأولى معنى نصارى اذ ما كان قومي يستعملونها ولكنها هي كلمة من القرآن ومن التنظيم المدني في عهد العرب بعد ان احتلوا بلادنا. الفكرة العمرانية والسياسية وراء اللفظة ان من سماهم العرب النصارى وهم يسمون انفسهم مسيحيين، الفكرة انه يجب ان يجتمعوا في حي واحد حول كنيستهم ليظلوا في حماية الحكم الإسلامي ولا يعتدي الرعاع عليهم. ما كنت افهم آنذاك لماذا تحدث احدا نفسه ان يعتدي عليهم. ماذا فعلوا؟ لما صرت شابا أخذت افهم ان كل مجتمع في العالم فيه من يعتدي عليه فعل ام لم يفعل وهذا مكتوب في كتب او الكتب احيانا تأتي هي من الشعوب.
ولكن قبل ان اولد اي قرونا بعد ان ظهرت شريعة الحماية للنصارى أخذ المسيحيون يسكنون بعيدا من الكنيسة يخالطون اهل البلد الآخرين ولم يكن عند احد من الفريقين مسؤولية الحماية للآخر لأن العثمانيين بعد اختلاطهم بالغرب قالوا للرعايا: كلكم مواطنون واذا اعتدي على الامة العثمانية يؤخذ المسيحي العثماني الى الحرب. كان هذا النصراني عارفا ان اهل السلطنة واحد لأن الموت واحد ولأن تشريعات كثيرة أرادت ان تظهر ان هذا الشعب واحد.
مرة سألت احد الناس: لماذا اذا كانت شرائحنا متجاورة في بوابة الحدادين في طرابلس او يعملون جميعا في سوق واحدة لا يبقى من حاجة الى حماية احدنا للآخر بل يظل حسن الجوار هو القاعدة وحسن الجوار يأتي من قربى الجار للجار او المزاملة في العمل ولا يطرح احدنا السؤال عن الحي الذي يستأجر فيه شقته ويتسامرون ويحترم كل منهم تقاليد الآخر. مرة كنت ازور صديقا في شهر رمضان في النهار. قال لي: سامحني لا استطيع ان اقدم لك القهوة لكوننا صائمين. قلت: ما كنت انتظر شيئا آخر. واذا سهروا بعضهم عند بعض ففي شوق يسهرون.
وعلى امتداد الناس جميعا في المدينة بقيت حارة النصارى وعند حدودها حارة اليهود ولكونها كيانًا مُدنيا آخر لم افكر قط باجتيازها او ان ادخل الكنيس. كل جماعة هي الأخرى.
لم ألحظ عصبية في حارة النصارى او تباعدا بين عائلاتها ربما لأن ما يوحدهم كانت هذه الكنيسة القائمة في وسطهم وكانوا دائما حولها فاذا قرع الجرس يعرفون انها صلاة الغروب مثلا ويهرول بعضهم اليها وعند انتهائها يعودون الى بيوتهم لتناول طعام العشاء او يسهرون قليلا عند الأنسباء ولو طالت المسافة اذ السيارة لم تكن معروفة عند غير الميسورين. فاذا حضرت يستقبلونك وهم لا يعرفون بمجيئك سابقا ويتحادثون احيانا بما هو شيق.
اذكر ان ابي كان طيب الحديث ولا يؤتاه من الجرائد التي كان يتصفحها. كان يتحدث عن خبرته مع الأتراك. ما كان يكرههم ابدا. انهم اسياد الحرب. ما كنا نتساءل لماذا نحارب لهم. انهم اسياد البلد. ونموت في الترعة اي عند قناة السويس او نعود منها او من بعلبك بعد دفع البدل.
***
المثقفون كانوا يقولون انهم عرب. كانت هذه الفكرة ظهرت في باريس عند قاطنيها الموارنة الذين كانوا يكتبون بالفرنسية. اهلي كانوا يقولون انهم اولاد عرب. كبف وجدوا هذا لست اعلم. فقط بنهاية الحرب العالمية الاولى أخذت الهويات تظهر وتتصارع ولكني كنت اذكر من ايامي في آخر العشرينات من القرن التاسع عشر ان ذاك الجيل القديم كان لا يزال يقول اننا اولاد عرب. ولما كانوا يريدون ان يتحدثوا عما يحسونه اعماقا يقولون نحن مسيحيون ويريدون بذلك فقط انتماء لا علاقة له بهذه الدنيا. البلد كان في استلام الاتراك ثم صار في استلام الفرنسيين اما هم ففي استلام الله وكنيسته التي كانوا يتحلقون حولها وما يعرفون شيئا عن كنيسة اخرى الا اذا صعدوا الى قرى الاصطياف اذ كانوا يعرفون ان مسيحيين آخرين يسكنون الجبال ويصلون بلغة اخرى ويرتلون بألحان اخرى. وما كنت المس عندهم تعصبا فالآخرون هم الآخرون.
اما جماعتي فيرعاها كهنة تلقوا بعض العلم الاساسي ليتمكنوا من أداء الخدمة وهي الكلمة التي تدل على الطقوس عندنا فالقيام السليم بكل الخدم على كثرتها كان الشرط لاقتبال الكهنوت. الأسقف وحده كان حائزا العلوم اللاهوتية كاملة في الخارج والخارج يمتد من القسطنطينية (اي اسطنبول بالتركي) الى بطرسبرج في روسيا مرورا بكييف وقازان وموسكو بحيث ان كل اسقف كان عندنا يتقن اليونانية او الروسية الى عربية متينة تؤهله للوعظ. وهذا الرئيس كان الى زمن ليس ببعيد يسكن حمى الكنيسة اي في حارة النصارى.
ولد ابي وجدي لأبي فيها وانا ما كنت اتردد عليها الا لزيارة عمتي التي كانت تعيش مع ولديها بعد ان مات زوجها عند الأتراك في الحرب. والداي عند زواجهما عاشا في حي جديد يدعى الزاهرية ثم في حي إسلامي يدعى باب الرمل حيث ولدت. لم يكن اذا في هويتي اي انتساب الى حارة النصارى.
لماذا أكون اذًا صبيا فقيرا من حارة النصارى؟ هل لأن جدي بنى قبة الكاتدرائية هناك ام لأني أحببت في شبابي ان أتأصل في هذه الهوية النازلة على اهل الحي من السماء؟ أين أصولهم الا في السماء؟ هل تبنيت الحارة ام هي تبنتني بعد ان دعي اهلها مسيحيين في انطاكية اولا (أعمال 26: 11).
ما همني ان اهل الحارة كلهم ما عدا قلائل نزحوا. حتى نهاية الأزمنة الإنسان في نزوح. المهم انهم يوم الأحد هم في الكنيسة ويصيرونها اذا اخذوا جسد ابن الله ودمه فينتشرون عالمين انهم في رعاية الله وحده وانهم يدفنون في مقبرة مسيحية مع القديسين.
تعزيتهم انهم في حارة النصارى العقلية لأن آباءهم شهدوا وانهم سيقيمونها في اللامدى ويعلمون اولادهم ان يصلّبوا وجوههم اتخاذا للغلبة التي اعلنها يسوع على الخشبة. عددهم ليس همهم واذا انقرضت حارة النصارى بكل معنى من المعاني سيذكرون ان واحدا قال لهم: “ها انا معكم كل الأيام الى انقضاء الدهر” (متى 28: 20).
سقطت قبة الكاتدرائية في حياة جدي جرجس خضر ولما رآها تتصدع صرخ بالمؤمنين ان اخرجوا ولم يمت منهم واحد لأن السماء كانت قبتهم.
سوف نتشتت في الأرض كلها. ما همنا. لسنا سكان الأرض. قاماتنا هنا ورؤوسنا تنطح العرش السماوي حتى يجلسنا الآب عن يمينه مع الابن. ذهبت حارة النصارى. أبقي المسيحيون الآن بين السماء والأرض حتى يوم تزول الأرض.
المطران جورج خضر – جريدة النهار – 2012-03-10