لأن هذه المحطة هي الأخيرة في احتفالات عيد الحركة هذا العام، وعلى هذا الرجاء، شئت أن تتخذ كلمتي منحى التأمّل الوجداني والمصارحة في العمق.
تعلّمنا في هذه الحركة أننا كلّما استذكرنا الحدث ومبدعيه كنّا في عيد. ولكوننا جماعة ترجو أن تجسّد الفكر حياة كان استذكار انطلاقة الحركة، في لاهوتنا، أن نحمل ذواتنا نحو الرؤى التي صنعتها محبتنا الحركية الأولى. فإن كُشف لنا الالتصاق بها كنّا دائما في عيد، وإن عاينا الغربة عنها عرفنا كمّ من اللغو نعيش في حياتنا.
ويخيّل الي أحيانا، وقد تعدّدت المنابر في هذه المناسبة وكثر الكلام، أننا، في تاريخنا، لم نتوقف بالقدر الذي يجب عند من أحبّوا وصنعوا الحدث لأن جمال الحدث كان قد أخذنا. فبالرغم من إيماننا بأن الابداعات التي أضفتها حركة الشبيبة الأرثوذكسية على وجوه الحياة الكنسية في أنطاكية هي من فعل الروح إلا أن هذا يجب ألا ينسينا الهياكل الحيّة التي تأهّلت لفعل الروح هذا. وهي تأهلت، فقط، بعشقها ليسوع المسيح الذي دفعها لملازمته العمر. فلأن المؤسسين أحبوا يسوع بهذا الكمّ عرفوه وعرفوا كنيسته بهذا المقدار.
وإن سئلت عن الأمر الأهمّ الذي أنجزته، برأيي، هذه الحركة في تاريخها، لأجبت أنه ليس تلك الحالة الملفتة من التكريس والنشر والمعرفة والثقافة التي عمّدت أنطاكية بها، بل هو أولا، مساهمتها في بناء هذه الذات الإنسانية التي أنجزت ما أنجزت، رغم الجهل المجتمعي والعائلي المحيط، لأنها نمت على حبّ المسيح ووعت، بهذا الحبّ، أن الله هو ألف وياء الوجود، ولم يكن لهذه الذات هذا الوعي لو لم تحظ بعشرة تلك الهياكل الحيّة عبر تلمذة متوارثة. وحسبي أن أقول أن مرد الضعف الذي فينا اليوم ربما يعود إلى افتقادنا لكثير من تلك التلمذة.
ذلك أن النهضة التي سعينا إليها دائما هي تلك المولودة من حبّ يسوع لا تلك المنطلقة من توق الانسان الى تألّق فكري مجرّد من أي بعد آخر. ولذا هي نهضة القلب وليست نهضة الفكر وحسب. هي نهضة الكيان التي تطال الشخص بوجوه حياته كافة لتعمّ في الأشخاص وتؤول، بهم ومن خلالهم، الى نهضة الجماعة. ولهذا قيل أن الحركة هي، أولا، أن “ينهض الانسان بذاته ويتطهّر ويلتصق بالمسيح”.
فما علينا التذكير به أنه، إن احبّ كلّ منا المسيح، سبق سعيه الشخصي للنهوض بكيانه الانساني أي سعي، له آخر. دون أن يغيب عن أحد أن استقامة سعيه قائمة بقدر ما هو محمول من الأخوة وبقدر ما هو حاملهم في آن. هو حامل للأخوة ومحمول منهم في الصلاة أولا، وفي التواصل مع من سبقه في هذا السعي والتمثلّ به حياتيا، وفي مواكبته ورعايته لمن يلحق به.
المقلق في بعض وجوه حياتنا الحركية اليوم هو إهمالنا، شيئا فشيئا، لهذا المسعى في توجّهاتنا. فبالرغم من كثرة الاخلاص والنشاط، وبالرغم من كثرة التألّق الفكري نلحظ القليل من المثل. وربما مردّ ذلك يعود الى أننا لا نواكب بعضنا البعض بشكل كاف و لا نرعى الأشخاص كما يجب. حقيقة الأمر أننا أهملنا، كثيرا، عشرة الوجوه وصارت الكلمة لدينا، أحيانا، أهمّ وأقدس من الشخص. نرميها دون أن نقدّر وطأتها ودون أن نقيّم مدى مساهمتها في خلاص النفوس. وقد آل بنا التعدّد في صفوفنا الى أن نفلسف المحبة، بعض الأحيان، متجاهلين أن أولى مقوّماتها التواضع، وإلى أن يسخّر بعضنا الحقيقة لخدمة احتكاره لها. فهل يحق لنا، بعد ذلك، أن نتساءل: لماذا كثيرا ما يكون حصادنا كحصاد من يرمي حبّة الحنطة على الصخر رغم البرامج والدراسات والاداريات التي تنهكنا ؟
جوابي على ذلك هو اعتقادي بأن الكلمة التي لا تعكس مسرى الكيان لن تفعل فعلها. دعونا نكثّف الوجوه المشتركة للحياة فيما بيننا لنتلطّف بضعفات كلّ منا ونتساعد في مواجهتها. لأنه إن سيبقى للمسيحيين من فرادة، في عصر الابداع العلمي والفكري، فلن تكون سوى فرادة عيشهم بنور فكرهم.
قال لي معلّم ومحب كبير “قلقي أن تفقد الحياة الحركية بساطتها شيئا فشيئا”. وقال لي أخ آخر “ما ألحظه في فكر الحركة اليوم أنه يقترن بكثير من الفلسفة وقليل من الروح”. والرأيان مكمّلان لبعضهما لأن بساطة الحياة وليدة وداعة الشخص ووداعة الشخص وجه من وجوه محبته والمحبة رحاب فعل الروح. لا أشير أمامكم الى هذا لأهمّش دور الفكر في حياتنا. ولكنّ همّي أن أشدّد أن فكرنا إن لم يعمّد بالحب فهو ليس بشيء. إن تنّوع الفكر المعمّد بهذا الحب أمسى مصدر غنى. وإن تعدد الفكر المجرّد من هذا الحب أمسى سبيل شرذمة.
ففي سياق الحديث عن الفكر المحبّ دعوني أصارحكم بأن ما يميّز المطران جورج، برأيي – ونحن نشكر الله أن قامته لا تزال تنتصب امامنا هيكلا حيّا- ليس هو عظمة ما أنجز من أمور أو ما يتركه من أثر وتراث، وليس هو حجم بلاغته وسعة معرفته وتعمّقه اللاهوتي والفلسفي فقط. بل أن أهمّ ما يتميّز به الرجل هي الرحابة التي تظلّل فكره والتي تندر لدى كلّ من شابهه سلطة ومعرفة، بحيث لم يرتج، يوما، تسجيل المواقف وحجب الآخرين هدفا.لكنّه ابتغى أن يكون الحوار مع فكر كلّ آخر منطلق تألّق وسبيل مساعدة الناس على معرفة الحقيقة والخلاص. ولهذا نرى أن تلك الرحابة قد أنتجت، في ظلالها، واحة حرّية في المسيح تنعمون بها وتنمو فيها المدارس الفكرية وتتعدد.
وأرى أيضا أن ما يميّز معلّمنا الكبير كوستي بندلي لا يُحصر بسعيه إلى تعميد العلم بالإيمان ووسع مقاربته للقضايا المعاصرة والشائكة بروح الإنجيل وببساطة تعبير، ولا أيضا بمحاولاته الدائمة لغرس روح الله في وجوه الحياة الإنسانية كافة. بلّ الأهم الذي يميّز هذا الرسول أن فكره يعجن، أساسا، بهموم الناس فتراه لا يكتب سوى ما يبني هؤلاء ويرى به تلبية لحاجتهم في ظرفهم وواقعهم.
لا أهدف من ذكر هذا إلى جرح تواضع المعلّمين بل أبغي الإشارة إلى أن الفكرين الأهمّ تأثيرا في حياتنا الحركية هما فكران رحبان يخلوان من أي حقد، لأبيّن، من خلال ذلك، أن لا حاجة لقلق البعض وخوفه من فكر الأخر، ولا حاجة لجنوح البعض إلى الإدانة بدل سعيه إلى التقويم. يكفي أن نتتلمذ على المحبة التي ترشح من فكر المعلّمين ومن يماثلهما ليكون لكلّ منا التأثير الذي يبتغيه إن اعتقد بأن في فكره، وحده، تكمن استقامة التعليم.
“فلو تكلّمت بلغات الناس والملائكة ولم تكن لي المحبة فما أنا إلا نحاس يطن أو صنج يرّن”.
وحدها هذه المحبة التي شهدناها تبني وتصبر وتخدم أمامنا هي التي ساهمت في ترسيخ التزامنا بهذه المسيرة. فهي ما أبرز لنا عظمة الخالق و دفعنا إلى البحث عن سرّ هذه العظمة. وهي ما خلق لدينا التساؤلات حول أثر فعله في الكون فعملنا للغوص في جسده المبسوط في التاريخ . وهي ما كشف لنا سرّ السعادة فسعينا لتخطي ترابيتنا قدر ما أعطينا.
يقيني يا أحبة أن الحركة، إن لم تستمرّ، أولا، هذه المحبة فلن تكون بشيء.