منتصف الصوم عندنا في الأسبوع المقبل وقد أحس الكثير من الأقدمين ان نصف زمان الإمساك خالطه شيء من الملل وبعض من تعب فخشي علينا الأقدمون أن نقع ولا نتابع المسيرة بفرح. دائمًا الكنيسة تخاف من زوال الفرح لأن خلافه استباق لموت ما في حين ان رؤيتنا رؤية قيامة.
ما كنت اتمناه وانا أكتب لجميع الناس ان يدركوا ان المسيحية التي تتكلم برموز وليس فقط بكلمات ما جعلت الصليب مركزا لها الا لكونه تحولا الى الانبعاث. اذا كان المسيح لا ينطفئ فنور الفصح هو كل شيء ولسنا ديانة مأسوية، مسدودة النوافذ اذ دخل السيد على تلاميذه بعد القيامة والأبواب مغلقة. ليس من انغلاق للنفس، اذا هي أرادت، يحول دون دخوله اليها. يدخل ليزيل الألم والحزن اذا رافقه ويخطئ من ظن ان المسيحية ديانة الألم وتعذيب الذات المقصود وان فيه فضلا. الفضل للصابرين اذا صبروا وليس للمتوجعين لمجرد توجعهم.
الإنجيل كتاب مليء بالعجائب وأراد المسيح شفاء المرضى. “العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” (متى 11: 5). ولكن لا يظنن احد انه قادر ان ينال التعزيات الإلهية وعظمة النعمة بهدوء الكسل. لا مفر من الخطيئة ولكن لا خروج منها الا بالتوبة ولا صعود على معارج التوبة الا بالصلاة.
المسيح لم يخترع الصليب. كان موجودا في العقوبات الرومانية. تقبله تقبلا ليعلمنا ان لنا به حراكا الى الله. النعمة المنسكبة علينا يتهيأ لها الانسان بشدائد تعتريه. كيف تشطب الشدائد روحيا وليس بالطب الجسدي او الطب النفسي بلا سكينة هي سكينة الله لنفسه.
لك ان تتوقع شفاء على صعيد الطبيعة ونحن نؤمن ان لله اصبعا في هذا. والطب النفسي يعالج العقد التي ورثتها لكنه غير مكترث بعافيتك الروحية. اصلا لا يسعى الى هذا ومؤسس هذا الطب كان ملحدا. انا ما قلت ان بديل المعالجة الصلاة. والقديسون حضوا على طلب المعالجة الطبيعية. غير ان الانسان مصلوب على ما يعتريه وعلى ذاته حتى يتلقى الحنان الإلهي. لا احد يخترع صليبه الشخصي او يتوهمه. قد لا يروقك استعمالي كلمة صليب. لكن حقيقتها قائمة في وسط الوجود. نحن نبقى على التسمية لأنها أعطتنا حياة لما واجه الناصري الخشبة التي علق عليها بالمسامير وإكليل شوك.
***
لما وضعت كنيستنا يوم غد ذكرى للصليب ترى اذا قرأت النصوص كلها المتعلقة بالتعييد انها شبيهة جدا بنصوص الاسبوع العظيم ولا سيما الجمعة العظيمة وكأن الذكرى استباق لتلك العظيمة، كأننا لا نستطيع ان ننتظر الموسم الفصحي مدة تطول. واللاهوت الذي تقرأه منذ مساء اليوم حتى الاحد هو اياه اللاهوت الفصحي. النظام الطقوسي عندنا دائما يبدأ بيوم سابق لأي عيد عظيم كأن زمنا لا فرح فيه يعذبنا. نشتهي التذوق المسبق للموسم المرجو.
لست اذكر من هو العالم المسلم الذي قال من قرون عديدة ما مفاده ان الله لا يدع امة توحيدية تخطئ قرونا عديدة في فهمها للصلب او تقع في انحراف رهيب كهذا المنسوب اليها. انا ما أخذته على نفسي اني لا أساجل ولكني لست قائلا هذا القول. انا لست افهم ان اعظم قصيدة حب كهذه التي نحن في صددها يمكن ان تكون بالكلية غريبة عن الفكر الإلهي.
انا لا افهم ان ألوفاً مؤلفة من الشهداء الذين قُتلوا من اجل هذه القضية او بسببها ماتوا عبثا اي انهم ماتوا في الكذبة الكبرى واذا انخدعوا فمن صاحب الخدعة. هم ما اتوا بجلال قداستهم الا من ايمانهم بما اعتبروه واقع خلاص.
نحن الصائمين نجيء الى التعبد غدا ليطهرنا الله من كل ادناسنا فنرث حامل الحياة اعني المسيح.
نطلب “صفحا إلهيا ونورا سماويا وحياة وسرورا حقيقيا” ونعلم ان هذه هي المجد. ولكن قبل نزول المجد نقول “يا رب لا بغضبك توبخ شعبا خاطئا ولا برجزك تؤدبنا لأنك صالح”.
***
في الأخير ماذا يعني الصليب الذي نتجدد غدا بمعرفته؟
كل فكرة موت المسيح لا تعني لنا الا انه وهو الحياة قد دخل نطاق الموت وأمات الموت. القصة كلها تختزل بأن ارتضاء يسوع الألم ألغى الألم واعطى الانسان المؤمن به طاقة الغلبة على كل ما هو سلبي في الوجود.
غير ان نصر القيامة يعيدنا الى الا ننسى المتألمين والفقراء والمرضى وان نستعد لنأخذهم معنا الى الفرح. نحن لا نحب صلب احد ولا ان يبقى تحت وطأة صليبه. واحد حمل الصليب حتى لا يبقى مخلوق رازحا. سعينا ان نصعد مع كل الناس الى اعلى ما في الكون وهذا ما نسميه السماء. رجاؤنا ان يتسلح البشر جميعا بالنصر على ما يعادي البشرية فيهم.
سنواصل الصوم بالرضاء الإلهي على رجاء رؤية الفصح نحن وكل المحبين ليسوع ونصلي عند ذاك لفرح الانسانية جمعاء.