الجهل

mjoa Saturday March 31, 2012 196

أعرف اني لا أعرف الكثير. وفضل الله عليك اذا نجاك من الإدعاء على هذا الصعيد. وكارثة الجهل انه لا يسمح لك بمتابعة هذا الكون اي ان تكون مجردا من المعارف الضرورية للعيش او غريبًا عن نوعية عيش فتكون تاليا على نقص كبير قد لا يهم الله لكن غيابه لا ينفعك في هذه الدنيا.

اذا ساغ هنا شيء من الاعتراف ينفع بعضا اقول اني لم احفظ شيئا من العلوم الطبيعية واني لا افهم شيئا من حديث اقتصادي على رغم تحصيلي شيئا دقيقا في هذا العلم ولكن قبل ستين سنة. اذا لم تعرف، اذا لم تتطور بتطور قطاع من المعرفة لازم تعسر عليك الحياة. اضطررت تاليا ان الازم اللغة لئلا اطرح في الجهل الكامل. وهنا ايضًا ألحظ عندي نواقص كبيرة. لذلك اقتنيت اهم القواميس العربية لتتبع علوم اللغة. والقاموس يلغي ما تظنه اختلافا. مثال على ذلك كنت أسمع كاهنا يتقن العربية في تلاوته المزمور الخمسين يقول: تنضحني بالزوفى بكسر الضاد فتساءلت لماذا هذا الرجل بالذات يلحن حتى تبين لي ان لسان العرب يقبل كسرها ويقبل فتحها. الى هذا لاحظت منذ بضع من سنين ان جمهورا كبيرا في الرعية لا يفهم الفصحى فآثرت مزجها بالعامية عند الوعظ. عليك احيانا ان تتنازل عن الفصحى لتوصل معنى إلهيا اذ انك خادم للخلاص لا للغة.

لماذا نطمع بفهم الكون؟ الأمي او شبه الأمي لا يطمع لكن الدماغ اذا انتشى قليلا بالمعرفة يشتهي الأكثر وهذا حلال لا يجرح التواضع بالضرورة. العارفون الكبار الذين عرفتهم ذقت تواضعهم. ان تقرأ هذا الكون يرضي الله اذ طلب منا ان نتسلط على الأرض. والتسلط هنا يعني الخدمة وليس فيه استكبار. انت تقدر ان تقرأ الله من خلال الكون وان تلمس يده مخلوقاته. هذا باب من أبواب التخشع الى ان يخطفنا الرب الى وجهه. اذذاك “العلم سيبطل” وتغدو الرؤية كل شيء في السماء.

ولكن تدغدغك المعرفة اذا كانت عظيمة. وصلت الى هذه القناعة لما كنت مرة جالسا عند الشيخ عبد الله العلايلي على الأرض في بيته نتدفأ بجمر المنقل وطرحت عليه سؤالا في اللغة. قال لي من دون ان يلتفت كثيرا: اذهب الى هذا الرف (وحدده) وخذ الكتاب السابع تر الجواب في الصفحة كذا. ذهلت، اذذاك، ذهولا صاعقا وعرفت كيف يكون العلماء وحاولت ان أدرس العربية.

عرفت جهلي يزداد لما رأيت الحاسوب وما يتفرع عنه من علم وانا لم امس الآلة هذه حتى اليوم ولو كانت في مكتبي في استعمال الموظفين. واتعجب عندما يجدون لي حلا لمسألة بسرعة فائقة فعرفت نفسي غريبا عن المعلوماتية واني انتمي الى حضارة متراجعة يمكن تسميتها الحضارة الأدبية. ادركت ان الشعر يتوارى في معظم البلدان وان الناس يؤثرون الكلام العادي الذي يصل بهم الى غايتهم وهي تطبيقية. هل ان الأدب كله ترف عقلي ام ان للجمال والحقيقة المكتوبة مكانة في هذه الدنيا؟ هل ان الحياة كلها طعام وشراب ومسكن وتحصيل معارف بواسطة الحاسوب ام ان هناك نفوسا تحب ان تتحرك مجانا. كانت امي تستعجلني الى تناول وجبة الغداء وتنزعج مني لأني استمر في القراءة. هل هذه الحرب تبقى قائمة بين اهل العلم واهل ما يعتبره هؤلاء حياة عادية لا تخلو من التفه؟

***

سؤال شبيه يطرح نفسه حول العلاقة بين المعرفة والحياة الروحية. عندما قال بولس لتلميذه تيموثاوس: “اعكف على القراءة حتى مجيئي” (1 تيموثاوس 4: 13) كان مدركا ان القراءة الروحية تقربنا من الله لأنها كلامه او ترجمة كلامه. وكلمته حياة. كيف يعامل الله الذين لا يعلمون عن وحيه شيئا او تعبيرهم فيه قليل؟ عند الرب وسيلة اتصال غير الكلمات الملهمة ما في ذلك ريب وهذه الوسيلة هي انسكابه في قلبك بالحب. المسيح لم يكتب شيئا لكنه قال. ولا نعرف كل ما قال. “وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع ان كتبت واحدة واحدة فلست أظن ان العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة” (يوحنا 21: 25). ماذا يدخل في عقول المؤمنين البسطاء من مدلول الكلمات التي يسمعونها؟ ليس عندي شك ان الأيقونة تتكلم واللحن يتكلم وجو الخشوع يصير كالكلام كما ليس عندي شك اننا نستدخل معا الكلمات بحسب طبقتنا الفكرية. خطر الأمية على أهلها انهم يجهلون كثيرا معنى ما يسمعون ويضعون تاليا مشاعرهم عوض الفكر النازل في الصلاة.

أما خطر النص المقدس على المثقفين فهو التأويل وجهلهم احيانا للتراث المحيط بالنص الإلهي فالمثقف عنده تراثه الذي فيه يتقبل الكلام الإلهي. بأي شيء يتقدس تعني اي شيء يستلم. مع كل هذه الأخطار لا بد من الكلمة النازلة. ايضا “اعكف على القراءة” و”عظ في الوقت المناسب وغير المناسب” (2 تيموثاوس 4: 2) والوعظ بالكلمة.

أما خلاص العارف فمثل خلاص الجاهل. اجل تساعدك النصوص على معرفة الله لكن شهواتك احيانا تعطلها. ونمثل امام الآب في عرائنا من الجهل وفي عرائنا من المعرفة. تظهر النفس امامه كما استلمت. ليس من مشهد في الكنيسة يلهمني حبا لبسطاء العقل والتحصيل مثل صف المؤمنين امام الكأس المقدسة. هؤلاء واللاهوتيون الكبار واحد في المحبوبية عند الله. لا يمر الله بكلمته ليعبر اليهم. هو يأتي بنفسه ويسكن القلوب.

***

لماذا أهلكت نفسي بالتحصيل الذي من الدنيا وذاك الذي من الحياة الأبدية؟
الاول جئته لاعتقادي ان الطبيعة والفن كتاب من الله الينا. اقرأ ربي حيث يمكنني من ذلك. لست اعلم اذا أخذت الكثير من الطبيعة. اظن اني حاولت اخذ الكثير من الفن. ما شجعني على ذلك كوني موقنا ان الله مخفي في الجمالات واني أغيب عنه إن غبت عنها.

ثم لإيماني بالكلمة أقبلت عليها حسبما استطعت. انت لست حرا من تجلياتها واذا نأيت عنها تضع نفسك في الجهالة. هل أعطتني الكلمة هذا الذي كان في البدء وتجسد من مريم؟ في ضعفي وانكساري أقر انها اسعفتني في ظروف التأزم والحزن اذ كنت في حاجة الى تلحينها لذاتها واحس اني كثيرا ما سمعت النظم الإلهي واللحن في البيعة.
هل اقتبلها قلبي اقتبالا غير مشروط؟ هل خضع لها وقد أراد الخضوع؟ هذا ما سيقوله الآب بعد ان يستردني اليه وارجو الا اخشى المواجهة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share