الدّخول إلى القدس (أورشليم) السّوريّة في الشّعانين!

mjoa Monday April 9, 2012 157

… قالوا: ناريمان بقيت في حمص. لمّا تغادر. لازمت جدّتها القعيد. حاصرها جحيم العنف! صارتا تأكلان الخوف! وتشربان الحسرة! وتلتحفان الرّجاء! وتعتصران الصّبر! وتبقّعت في العين حمرةُ دمعٍ وأرَق! ومن الفم باتت تخرج فقاقيعُ كلمات! تتطاير كالعصافير المذعورة! يا ربّ ارحم! باسم الصّليب العظيم! يا يسوع! أيّامهما ليال تكرّ! لا نور فيها ولا نهار بعد! ظلمة الظّلم أسدلت ستائرها ثقيلة عليهما!

سلام عليكِ يا سورية! يا ناريمان أحبّة الرّبّ! يا مساكين الأرض وأزاهيرها الرّخصة المداسة!

“سمعان سمعان، هوذا الشّيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكنّي طلبت من أجلكَ لكي لا يفنى إيمانكَ. وأنتَ متى رجعتَ فثبّت إخوتك” (لو 22: 31 – 32)!

     سمعان خار وكفر. هو الخوف قهّار! لكنّه بكى بكاء مرًّا! لم يفعل ما أراده بل ما لم يرده فعله! لذا عاد واستُعيد! صليبُكِ قيامةٌ، يا أخيّة، لأنّ الرّبّ غامرُكِ بحبّه! لستِ، بعدُ، في البال! أنتِ في قلب الله! “بكى يسوع” (يو 11: 35)!

“من أجل شقاء المساكين، من أجل أنين البائسين، الآن أقوم يقول الرّبّ. أصنع الخلاص علانيّة، وأجعلهم في أمن” (مز 11: 5)!

     العنف، عنفُ الشّرّ، باقٍ محيقًا بنا إلى قيام السّاعة! هذا يُسْكِنُه السّيّد، في أويقات، هنا وثمّة، سَمْعًا ورأفة بصراخ الواجفين إليه! ثمّ يعود! يعود العنف! العنف مدمّر الحبّ! ما دام القلب نجسًا فلا أمن يدوم! الأمن من الإيمان!

“من أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا من لذّاتكم المحارِبة في أعضائكم” (يع 4: 1)؟!

     لذا اختار السّيّد الإقامة لا في قلب العالم حاكمًا، بل في عالم القلب حكمة، ليبثّ سلامًا وروحًا في خضمّ حروب وأمواج الموت في هذا الدّهر! “أعطني قلبكَ يا بنيّ” (أم 23: 26)! لمّا يشأ أن يكون ههنا قاضيًا ولا ملكًا ولا رئيسًا! استخدم نفسه لنا! ما تعاطى خلافات النّاس فيما بينهم! تعاطى النّاس! وما النّاس خلافاتُهم! مَن ساوى النّاس بمواقفهم ضلّ وما عرف الحقّ! لا ليست هناك مواقف أحديّة حقّ في هذا الدّهر! الحقّ ناس! فقط إن صرتَ إليهم، إن أحببتَهم، بتّ في الحقّ! لذا العنف المبارك أن تخرج من ذاتك عنوةً لتحبّ، لتصنع لك أقرباء حقّانيّين بالرّحمة! كلُّ عنف غير هذا دنِس نجِس رجس؛ لا من الحقّ ولا من الله هو!

     على هذا دخل السّيّد القدسَ أورشليم على جحش ابن أتان، غلاّبًا لبهيميّة الخطيئة في جسده! لا عادت القدس أرضًا ولا مدينة ولا قبيلة من قبائل الأرض! “الخلْق كلُّهم عيال الله”! القدس أورشليم وجه ناريمان سورية الصّغار على رجاء البَرَكة! لا سلام إلاّ لمَن تحابّوا، ولا جواب لكلّ أزمة إلاّ بسلام القلب! لِمَن زال حاجز العداوة القائم فيما بينهم! “هو سلامنا الّذي جعل الاثنين واحدًا ونقض حائط السّياج المتوسّط، أي العداوة” (أف 2: 14 – 15)!

     مَن كان ليجمع اليهود إلى السّامريّين، واليهود إلى الأمميّين؟ العداوة بينهم ما كان لبشريّ أن يفكّها! كانت مختومة بسبعة أختام الدّم والحقد والموت! أمّا يسوع فكان إلى اليهوديّ والأمميّ والسّامريّ سواء بسواء. كلّهم سكب هو نفسَه ودادًا لأجلهم فصاروا واحدًا لديه! جاؤوه بتواضع القلب فأبان، بحبِّه إيّاهم، ما هم عليه، في الرّوح، من بهاء أخّاذ! رئيسُ المجمع اليهوديّ، يايرس، خرّ عند قدميه، فدخل يسوع بيته وأقام ابنته من الموت (مر 5). وللمرأة السّامريّة المزواج كشف لاهوته (يو 4). والمرأة الأمميّة الكنعانيّة عظّم إيمانها تعظيمًا كبيرًا (مت 15). مَن قال إنّ مَن تعاديه لا خير فيه؟! هو عمى قلبك ما يوحي لك بذلك! ويل لمَن لا يفطن لعيوب نفسه وبركات خصومه! فإن فطن إلى ما فيه من خَبَث وإلى ما في سواه من دُرَر، ما أمكنه، من بعدُ، أن يعادي أحدًا! الآخر سرّ نور عميق! عادى ما فيه هو من دنس حتّى يتنقّى، وعادى ما في سواه من شطط حتّى يُسهم في إصلاحه! إذًا القائل المبارك: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم”، ما طرح أمرًا غريبًا عن أصالة الإنسان، بل ما هو في أساس أصالة الإنسان! هو الأعمى مَن لا يرى ما أمامه بل ما تزيِّنه له تصوّراته وخيالات المضلِّل، إبليس!

     في نهاية المطاف لا نستطيع شيئًا ضدّ الحقّ بل لأجل الحقّ! الباطل ضجّاج، لكنّه لا يلبث، مهما طال، أن يتبدّد كغيمة صيف! “رأيت الشّرّير معتزًّا متشامخًا مثل أرز لبنان ثمّ اجتزت فلم يكن ولم يوجد له مكان” (مز). الغلبة، في كلّ حال، للخراف! الذّئاب ولو مزّقت الخراف واستبانت على سيادة لا تبقى! يأكل بعضها بعضًا! “مَن يأخذ بالسّيف بالسّيف يؤخَذ”! هذه قاعدة العنف! مهما اشتدّ على الخراف لا يبيدها! ضامن بقائها واستمرارها، إلى مجيء السّاعة، مسيح الرّبّ! قد قام آخِذُ الحكماء بمكرهم! الخراف إن قضت تكاثرت بالأكثر لأنّها من إصالة الإنسان وإليه! أما قيل: دماء الشّهداء بذار الكنيسة؟ الذّئبيّة مهما روّعت قلب الإنسان غريبة عنه؛ من الذّئب الأوّل، الشّيطان، تأتي، وما هي من جذور الإنسان! يُنيخ الخرافُ الرّأسَ متى حلّ الذّئاب، وبعضها يُطاح كسوق الأزاهير البيضاء السّامقة في مهب رياح شرقيّة؛ فإن عبرت الذّئاب، وهي عابرة أبدًا، استبانت الأزاهير ملء حقل الرّبّ وارتفعت إلى فوق وتنامت لأنّها إلى النّور المنسكب من فوق تشوُّفُها!

     هيرودوس قتل أطفال بيت لحم، لكنّه ارتحل وباد، بعدما صال وجال وزأر، أمّا مسيح الرّبّ فدخل أورشليمَ قلوبَ النّاس على وداعة؛ وصرخ الأطفال: هوشعنا في الأعالي، مبارك الآتي باسم الرّبّ! الكلّ به صار طفلاً! إن لم ترجعوا وتصيروا كالأولاد فلن تدخلوا ملكوت السّموات! جعل العالَمين إليه أطفالاً جددًا في القلب، بالرّوح! شريعة الله أنّ مَن يصغر تواضعًا وتسليمًا ورقّة قلب هذا هو الّذي يكبر كبيرًا ويثبت إلى الأبد!

     لذا وحدها ناريمان سورية الصّغار تبقى، ولو أُلقيت في جبّ الضّيق والنّسيان كإرميا لأنّ وجودها قول حقّ! هي حاملة كلمة النّبوّة والحبّ لأنّه لا حول ولا قوّة لها إلاّ بالله! بإزاء “إلهي إلهي، لماذا تركتني”؟! قول يكمّله: “إنّي ولو سلكت في وسط ظلال الموت لست أخشى شرًّا لأنّك أنت معي. عصاك وعكازك هما قد عزّياني. هيأت أمامي مائدة تجاه الّذين يحزنونني. وكأسك كالخمر تطربني. رحمتك تتبعني جميع أيّام حياتي” (مز).

     غدًا قيامة يا أطفال بيت لحم السّوريّة! لا قيامة لأحدكم على الآخر بعدُ، قيامتكم جميعًا إلى القادم إليكم! هوذا يأتي مع الفجر! سلام يا أخيّتي حتّى نلتقي وجهًا لوجه فيه ونحن ملتقون!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share